Visits number:22
Downloads number:Not found

الحسد
الحسد هو تمني الحاسد زوال نعمة الغير، وسعادته أن يرى الآخرين في شقاوة وعذاب، فالحسد لا يكون إلا على نعمة.
والإنسان في هذه النعمة على حالين، إما أن يكره تلك النعمة ويحب زوالها عما هي عليه، وهذه الحالة تسمى حسداً.
وإما أن لا يحب زوالها ولا يكره وجودها وبقاءها ولكن تشتهي نفسه أن يكون له مثلها، وهذه تسمى غبطة أو منافسة.
بين الحسد والغبطة
فإذا رأى المؤمن على أخيه المؤمن أي نعمة إن كانت في الجسم أو في المال أو في الولد أو في المنزل أو في الجاه أو في المركب الذي يركبه أو في أي شيء له أو حوله، فإن كان يتمنى زوال هذه النعمة وفقط، فهذا هو الحسد الذي ذمَّه القرآن وحذَّر منه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.
أما إن كان لا يتمنى زوال هذه النعمة، إن كانت نعمة في الدنيا أو نعمة في الدين كقيام الليل وصيام النهار والمداومة على تلاوة القرآن، والإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى، ويود أن يكون له مثلها فقط، فهذه هي الغبطة أو المنافسة التي قال فيها صلى الله عليه وسلَّم وهو لا يقول إلا الحق:
{ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ }[1]
وكلمة (لا حسد) هنا يعني لا غبطة، فكون الإنسان يتمنى أن يكون له نِعمٌ مثل هذه، فهذه هي الغبطة أو التنافس الذي يقول فيه الله: " وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " (26المطففين).
الحسد المذموم
أما الحسد المذموم فقد ذمَّه الله عز وجل في القرآن، بل وأمر المؤمنين بضرورة الإستعاذة من الحسد والحاسد، فقال سبحانه وتعالى: " وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " (5الفلق) وقال في هؤلاء الذين يتمنون زوال نعمة الغير: " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ " (54النساء).
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن أن الحسد من صفة المنافقين وضعفاء الإيمان أو الكافرين، فقال عن الكافرين وحسدهم: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ " (109البقرة) فهم هنا يحسدون المؤمنين على الإيمان ويتمنون زوال هذا الإيمان، وهذا الحسد لا يكون إلا من الكافرين والمشركين والجاحدين.
وقال تعالى في المنافقين: " إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا " (120آل عمران).
ومن هنا فإن المؤمن عليه أن يعتقد تمام الاعتقاد أن الحسد لا يغير نعمة كتبها الله تعالى له، ولا فضلاً ساقه الله إليه، كما يحدث من كثير من المسلمين في عصرنا، فإنهم ينسبون كل ضرر يلحق بهم إلى الحسد، وكل شيء يصيبهم إلى الحسد، وهذا يتنافى مع كلام الله: " وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا " (120آل عمران) ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
{ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ }[2]
موقف المؤمن من الحسد
أما المؤمن خالص الإيمان صافي القلب للرحمن بيَّن الله تعالى في القرآن أنه ليس من صفاته الحقد ولا الحسد وليس في قلبه غلٌ، بل صدره نقي نظيف لجميع إخوانه المؤمنين، فقال عنه الله تبارك وتعالى: " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ " (47الحجر).
ومن هنا فينبغي على السالك في طريق الله تبارك وتعالى أن يجاهد حتى يُخرج هذه الصفة الخبيثة وهي الحسد من داخل نفسه، ومن سراديب قلبه حتى ينطبق عليه ما قال الله فيهم: " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ " (47الحجر).
أما في السُنَّة المشرَّفة، فقد حذَّر صلى الله عليه وسلَّم المؤمنين فقال:
{ إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ }[3]
وقال صلى الله عليه وسلَّم مبيناً متى تتم الأخوة للإنسان، ويكون أخاً لإخوانه في الدين، فقال صلى الله عليه وسلَّم مبيناً ما ينبغي على كل مؤمن أن يتقيه وأن يخرجه من صدره حتى تتحقق أُخُوته:
{ لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا }[4]
أي أن الأُخُوة لا تتم عند أي مؤمن إلا إذا تطهر من الصفات التي أشار إليها نبينا الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
{ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ، قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ }[5]
وروى سيدنا أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وكانوا جالسين معه قال لهم:
{ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ، فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عز وجل وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ، لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ }[6]
إذاً هذه المنزلة العالية لمن طهَّر قلبه ونزع ما فيه من غش وحسد وحقد على المسلمين، وملأ قلبه بالحب لهم أجمعين.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم محذراً هذه الأمة من الذي حدث للأمم السابقة وتسبب في إهلاكهم وتفريق جموعهم وعدم توحيد صفوفهم:
{ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ }[7]
ولذلك قيل: (إن المؤمن يغبط، والمنافق يحسد) فالمؤمن يتمنى أن يتساوى مع أخيه في استباق الخيرات وعمل الصالحات، ولكنه لا يتمنى زوال نعمة عن أخ له في الدين، أو أخ له من المؤمنين أو المسلمين.
وإنما الذي يتمنى ذلك يكون من المنافقين، ويحتاج إلى جهاد كبير حتى يقتلع هذه الصفات من نفسه ليكون من المؤمنين الذين يحبهم رب العالمين تبارك وتعالى.
طبيعة الحسد
وطبيعة الحسد هو انفعال كريه يحدث في باطن الإنسان يَنمُّ عن حقد الحاسد وكراهيته وبغضه للمحسود بسبب ما هو فيه من نعمة كالمال أو الصحة أو الجاه أو الجمال أو النجاح، فيتمنى زوال المحسود ونزعها منه.
وهذا المرض اللعين بدأ مع إبليس اللعين عندما حسد أبانا آدم على أنه خليفة لله، ولما أمره الله أن يسجد هو والملائكة لآدم رفض أن يسجد: " قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ " (75ص).
ودفعه هذا الحقد إلى أنه لم يرتح حتى سوَّل لآدم في الجنة أن يخالف أمر مولاه ويأكل من الشجرة التي نهاه عنها الله، وكان سبب خروجه هو وحواء من الجنة الحسد الذي كان عليه إبليس.
وظهر هذا الحسد أيضاً في قلب ولدي آدم اللذان يسميان قابيل وهابيل، وإن كان الله تبارك وتعالى لم يذكر اسمهما في القرآن، إلا أن هذه الأسماء وردت عن الكتب السماوية الأخرى.
فأحدهما حسد أخاه على أنه سيتزوج أخته الجميلة، وهو سيتزوج أخته القبيحة، فكانت النتيجة أن الحسد دبَّ في صدره واستشرى وزاد، حتى قتله كما ذكر الله تبارك وتعالى عندما احتكما إلى السماء وقدَّم كل واحد منهما قرباناً، فلما وجد أن الله تقبل قربان أخيه ولم يتقبل قربانه زاد الحقد والحسد عنده فقتل أخيه، فكان أول ذنب في الأرض، قال صلى الله عليه وسلَّم.
{ لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ }[8]
وهذا الحسد ظهر أيضاً في قلوب المشركين عندما اختار الله نبينا صلى الله عليه وسلَّم من بينهم وأنزل عليه النبوة، وكان الوليد بن المغيرة زعيم قريش وأغنى أغنيائها في هذا الوقت، فقال: لم يجد الله من يختاره لرسالته غير هذا الرجل الفقير!! لِمَ لم يختارني أنا أو يختار عُروة بن مسعود الثقفي زعيم الطائف؟ " وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ " (31الزخرف) فمنعهم الحسد من الإيمان به، بل وأضمروا له وكل من تبعه الشر وسقوهم من ألوان العذاب حقداً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلَّم.
أسباب الحسد
السبب الأول: الغِيرة:
قابيل عندما قتل أخاه هابيل كان غِيرة منه لما حدث بينهما، وإخوة يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام عندما أرادوا إبعاده عن أبيه يعقوب لحب أبيه له ولأخيه، وغِيرتهم منه، وذكر الله تبارك وتعالى ذلك وقال عنهم أنهم قالوا: " اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ " (9يوسف).
ولذلك أباهم كان يعلم ذلك مسبقاً بعلم الله له، فعندما رأى يوسف رؤياه قال له: " يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا " (5يوسف) وذلك بسبب الغِيرة التي دبَّت بينهم.
والغِيرة عادة ما تكون بين الأقارب لأنهم يتنافسون فيما بينهم، إن كان في مظاهر الدنيا، أو كان في أمور الآخرة، أو في أي نعمة يمن الله تبارك وتعالى بها على أحدهم، فيريدون أن يكون لهم مثله أو أن تذهب النعمة عنه.
كذلك تكثر الغيرة والحسد بين أصحاب المهنة الواحدة، فنجد الطبيب لا يحسد إلا طبيباً مثله بل وفي تخصصه، والتاجر لا يزاحم إلا تاجراً مثله، والقارئ لا يحسد إلا قارئاً مثله، والصانع صاحب الحرفة لا يحسد إلا صانعاً مثله، وهكذا.
السبب الثاني: التكبر والغُلو والاعتزاز بالنفس:
إذا كان الإنسان عنده نزعة الكِبْر وهي إبليسية، لأنه كان من أسباب عدم سجوده لآدم قوله: " أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ " (12الأعراف) وهذه نزعة الكِبْر، فإذا كان الإنسان عنده نزعة الكِبْر ومعتزاً بنفسه لا يريد أحداً أفضل منه في أي نعمة من نعم الدنيا، فيحسد غيره إذا وجده قد وصل إلى ما لم يصل إليه، أو إذا وجد الناس يحبونه أكثر منه، أو إذا وجد أولاده يبارك الله فيهم، أو إذا وجد ماله ينمو ويبارك الله فيه، وهكذا كل ذلك من الكِبْر الذي يمنع الإنسان من الرضا عن قضاء الله.
وهؤلاء الذين عندهم نزعة من الكِبْر عليهم أن يكون يقينهم في الله سبحانه وتعالى أنهم لن يستطيعوا أن يضُّروا أحداً أو ينفعوا أو يمنعوا أو يُعطوا أحداً إلا بإذن الله، ويعلموا علم اليقين أن توزيع العطاء كله بالله ومن الله، فيُلزموا بذلك قلوبهم فيزول الكِبْر من عندهم.
السبب الثالث: حب الرياسة وطلب الجاه:
إذا كان الإنسان يطمع في منصب، ولا بد أن له منافسين في الوصول إلى هذا المنصب، فإنه ربما يحسدهم ويتمنى أن تزول منهم بعض النعم والمؤهلات التي تؤهلهم لهذا المنصب حتى لا يتبقَّى إلا هو، ويتوافر فيه الصلاحيات للمنصب بمفرده، وهذا أيضاً يسبب الحسد، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة منه أجمعين.
السبب الرابع: الخوف من فوات المقصد:
وذلك إذا كانوا متزاحمين على مقصد واحد، كأن يكون في كل دائرة متنافسين على عضوية مجلس النواب مثلاً، أو على عضوية مجلس الشورى، وكل واحد منهم يتمنى لأخيه الهزيمة، ويتمنى له الخذلان، ويتمنى له عدم التأييد ليفوز وحده بهذا المأرب، وهذه أيضاً ليست من صفات المؤمنين.
السبب الخامس: العداوة والبغضاء:
إذا كانت هناك عداوة بين اثنين، فأمرٌ طبيعي أن كل واحد منهم يتمنى لأخيه زوال نعمه التي هو فيها، وهذا أصل الحسد.
وإذا كان هناك بغُضٌ بين شخصين فالعداوة والبغضاء هي التي تؤجج نار الحسد في القلوب، وربما تُفضي أحياناً إلى التنازع، وربما تذهب إلى أبعد من ذلك فتذهب إلى التقاتل، بل ربما تذهب إلى الشكايات في كل الجهات الرسمية، وربما تظل هذه العداوة والبغضاء طوال الحياة، مع أنه لا ينبغي لأي مسلم إلا أن يحب الخير لجميع المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[9]
السبب السادس: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله:
إذا كان الإنسان - نسأل الله الحفظ والسلامة - نفسه خبيثة وشحيحة بالخير، وهذه من نفوس المنافقين، فلا تفرح بالخير لأي إنسان، بل تفرح بالضر إذا وقع فيه إنسان، وتشمت وتُظهر الحسد جلياً عياناً لأي إنسان، بل ربما يتحدث بذلك بين الأهل والأحباب والخلان، وهذه النفس الخبيثة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا منها أجمعين، وأن يجعل نفوسنا ملكوتية تحب الخير لنا وللناس أجمعين.
قد تجتمع هذه الأسباب لواحد، وقد يجتمع أكثرها لواحد فيعظم عنده الحسد ويكون عظيماً في الحسد، وقد يكون بعضها وهذا يسهل عليه العلاج، نسأل الله أن يُبرئنا أجمعين من هذا الداء اللعين.
علاج الحسد
كيف يتم علاج الحسد؟ كما بيَّن الله، وكما فصَّل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
الأمر الأول: لكي يعالج الإنسان نفسه من هذا الداء الوبيل، ينبغي أن يتخلق بخُلق الرضا عن الله تبارك وتعالى في كل ما أعطاه، فيرضى عن الله في عطاياه ولا يتسخَّط ولا يتبرَّم ولا يرى أن له حقٌ والله عز وجل منعه، فإن الله يحب الخير له وللناس أجمعين، ويؤدي عمله قدر جهده وينتظر الخير والفضل والنتيجة من ربه تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: أن لا ينظر إلى من هو فوقه في الدنيا، بل ينظر إلى من هو دونه في الدنيا، ووضع لنا النبي صلى الله عليه وسلَّم ميزاناً قَيِّماً في هذا العلاج، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ }[10]
وقال في الحديث الآخر:
{ إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ }[11]
فإذا نظر الإنسان إلى من هو أقل منه في الخير والعطاء الإلهي يحمد الله على عطاياه ويشكره على ما آتاه، وإذا نظر إلى من هو فوقه في الدين والقرب من الله والتودد إلى حضرة الله فإنه يبذل جهده كله ليلحق به ويكون معه، ويكون: " مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " (69النساء).
الأمر الثالث: من جملة هذا العلاج الرقية الشرعية، وهي علاج سنَّه لنا النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقد ورد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَارِيَةٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِوَجْهِهَا سَفْعَةً أي صُفرة:
{ بِهَا نَظْرَةٌ فَاسْتَرْقُوا لَهَا }[12]
أي ارقوها، والرقية الشرعية تكون بالآيات القرآنية، وبما في الرقية من الأحاديث النبوية، فعن أبي خُزامة عن أبيه قال:
{ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ }[13]
وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم يُعوِّذ الحسن والحسين ولديّ ابنته السيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فيقول:
{ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ }[14]
وهذه رُقية طيبة تفيد الأطفال على الدوام ليتنا نحفظها ونكررها لهم كلما تغيروا على مدى الأيام.
وعن عائشة أنها قالت:
{ كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَاهُ جِبْرِيلُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ يُبْرِيكَ وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَشَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ }[15]
وهناك كثيرٌ من الرقيات الشرعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، جمعنا بعضها في كتابنا (مفاتح الفرج) من أرادها فليرجع إليه فإن فيه الفرج إن شاء الله.
المناعة من الحسد
ما الذي يجعل الإنسان في مناعة كاملة من الحسد؟ الذي يجعل الإنسان في مناعة من الحسد ولا يتطرَّق الحسد إلى قلبه طرفة عين ولا أقل أن يفهم ويتفهَّم ويعيش في هذه المعاني الآتية:
الأمر الأول: أن يعلم أنه بالحسد سخط على قضاء الله، وكره نعمته التي قسمها بين عباده، وفي ذلك يقول القائل:
ألا قُل لمن كان لي حاسداً | أتدري على من أسأت الأدب؟ |
أسأت على الله في فعله | لأنك لم ترض لي ما كتب |