Visits number:146
Downloads number:1

تطهير القلب
بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله الذي قرَّبنا به إليه، وأخذ بأيدينا ليوصلنا بين يديه، ونكون من أهل الزُلفى والقرب لديه سبحانه وتعالى، والصلاة والسلام على سيد الأنام، ومصباح الظلام، ومفتاح كل بابٍ للقرب من الملك العلام، سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
سنتناول أمراً هاماً يخص كل سالك ومريد في طريق الله تبارك وتعالى، بل ويخص أيضاً عوام المؤمنين والمسلمين أجمعين، هذا الأمر يدخل في قوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ }[1]
والقلب هو بيت الرب سبحانه وتعالى الذي يتنزل فيه بإنعامه وإكرامه من الإلهامات، ومن أنواع التجليات الإلهية، والعلوم اللدنية الوهبية، وما يأتي للعبد ليكون من أهل الفراسة النورانية، وغيرها من العطاءات التي ليس لها عدٌّ وليس لها حد، فكلها تتنزل على القلب السليم.
ولذلك يُثني الله عز وجل في قرآنه دوماً على القلب السليم، فيقول الله عز وجل في شأن من يريد وصال حضرته، أو يكون جالساً على أرائك قربه ومودته: " إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (89الشعراء) لا بد أن يكون قلبه سليماً.
ويُثني على من وصل إلى هذه المرتبة الإلهية، وارتفع إلى درجة عليَّه هي درجة الخُلة وهو سيدنا إبراهيم إذ يقول تبارك وتعالى في شأنه: " إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (84الصافات) فوصل مقام الخُلة نتيجة القلب السليم الذي سلم من العلل والأهواء والحظوظ والشهوات الدنية، والرغبات الدنيوية، وأصبح كله مملوءاً بالقرب والإخلاص والخشوع والحضور لرب البرية سبحانه وتعالى.
القلب الحقيقي
والقلب كثيرٌ من الناس يظن أنه هو المضغة الصنوبرية التي هي موجودة في الجانب الأيسر من الإنسان، والتي تستقبل الدم من أعضاء الجسم وتنقيه وتصبُّه مرة أخرى إلى كل ذرات جسم الإنسان، وهذا القلب الذي هو موجود في الجهة اليسرى في جسم الإنسان موجود في كل كائن من كائنات الله تبارك وتعالى.
وربما يكون في صورة أضخم في الحيوانات كبيرة الحجم، وحتى الطيور وكل كائن فيه قلبٌ يقوم بهذه العملية الفسيولوجية.
وهذا صورة للقلب، ولكن ليس هو القلب الذي يتحدث عنه الرحمن تبارك وتعالى في القرآن، فإن قلب الشيء يعني حقيقته، فقلب الإنسان هو حقيقة الإنسان الباطنية التي تقوم على جميع العمليات الظاهرية التي يقوم بها هيكل أو جسم الإنسان.
ولذلك لو استمعنا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلَّم برويِّة ونظر ثاقب، نجد أنه يقول صلى الله عليه وسلَّم: ((إن في الجسد)) لم يقُل في الجسم، والجسد غير الجسم، فالجسد هو الصورة الحقيقية للإنسان التي لا تراها العينان طالما الإنسان في الدنيا، ولكن يراها الإنسان لنفسه في المنام، إذا رأى نفسه تتحرك هنا وهناك، فيزور البلد الفلانية، أو يزور حضرة النبي، أو يؤدي الطواف بالبيت الحرام، وجسمه نائمٌ على فراشه لم يتحرك، من الذي ذهب ورجع وأتى بهذه البشريات وهذه العلوم والإلهامات؟ حقيقة الإنسان، وهو القلب الذي جعله الله سبحانه وتعالى صورة الإنسان الكلية الحقيقية.
(إن في الجسد) لم يقل في الجسم، لأن جسد الإنسان هو صورته الحقيقية، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى عن قومٍ: " وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ " (8الأنبياء) أي أن الصورة الجسدية للإنسان لا تأكل ولا تشرب ولا تنام، لأنها حقيقة الإنسان، فإذا نام الجسم الظاهر ظهرت الحقيقة الباطنة إن كان الإنسان من أهل الصفاء والنقاء، وتذهب به إلى عالم الطُهر والنقاء والصفاء، أو تذهب به في الدنيا إلى روضات الأتقياء، أو إلى روضة خير الأنبياء، أو إلى الأماكن التي قدستها السماء، لأنها في حالة رُقي.
وإذا كان هذا الإنسان طوال يومه في الشهوات والأهواء والملذات والغفلات، إذا نام لا يرى إلا ما يشبه ما كان في يقظته، يرى أحلاماً مزعجات، ويرى كذا وكذا من الأشياء التي تُرعبه، والتي تجعله يقوم من نومه خائفاً مرتعباً مما قد رآه في منامه.
فحالة الإنسان في صفائه ونقائه تظهر عند نومه، وحالة الإنسان من جفائه وبعده تظهر أيضاً عند نومه، فعندما ينام يكون إما في روضة من رياض الجنة إذا كان من أهل الصفاء والنقاء، فيرى الرؤيات الطيبة والمنامات الحسنة، وقد يزوره بعض الملائكة الكرام، وقد يزوره بعض الأولياء العظام، ويقذفون في قلبه من علوم الإلهام بعلوم وهبية وحِكَم ربانية، وعندما يستيقظ من نومه أحياناً يكون قد وعاها إذا كان مؤهلاً لبثها فيمن حوله بدون إثارة فتنة، وأحياناً يقوم من نومه وقد تناساها، لأنه ربما يكون عنده شيء من العجلة، فإذا أظهر ما لا يطاق أوقع غيره في النفاق، فتبقى هذه العلوم وديعة لديه، حتى يبلغ أشده في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى فتأتيه: " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " (22يوسف) بلغ أشده في طريق الله وفي السير إلى الله، وليس البلوغ في الجسم، وإنما البلوغ في المقام الكريم الأمين: " قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ " (60الأنبياء) وهو مقام الفُتُوة.
القلب النوراني
هذا القلب النوراني الإلهي هو من نور الله، وأُفيض علينا فيضاً من لدن حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم، ولذلك هذا القلب لا يوجد إلا عند المؤمنين، أما غير المؤمنين فلديهم نفوس وليس لديهم هذه القلوب، قال تعالى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ " (37ق).
إذاً هناك من ليس له قلب، أين قلبه؟ يقول الله فيه: " لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا " (179الأعراف) طمث الله على بصره الباطن وبصيرته النورانية فأصبح يعيش في ظلام الكفر والطغيان، والجهل بحضرة الرحمن، والجهل بمقام النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم، فهؤلاء ليس لهم قلوب.
والقلب وهو حقيقة الإنسان لا ينام ولا يأكل ولا يشرب ولا يموت ولا يفنى، ولذلك عندما تحدَّث الله تبارك وتعالى عن الفناء والموت قال: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " (35الأنبياء) لأن النفس موجودة عند الجميع، وهي الدرجة الدنيا من النفس، أما النفس اللوامة والنفس المطمئنة والنفس الملهمة، فهذه عطاءات من الله وترقيات لعباده المؤمنين.
وظيفة النفس
لكن النفس عموماً: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " (7-8الشمس) هذه النفس تُسيِّر الجسم، وهي موجودة عند الجميع للإشراف على تسيير الجسم ظاهراً من غذائه وشرابه ونومه ونموه وعلاجه، وكل شيء له في حياة الجسم تُشرف عليه النفس، هذه النفس هي التي تموت.
ولم يقُل الله تبارك وتعالى: كل نفس ذائقة الحب، أو كل نفس ذائقة القرب، أو كل نفس ذائقة الوُد، ولكن الوُد والقرب لأناس معدودين يقول الله تعالى فيهم: " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " (96مريم).
هؤلاء هم الذين لهم وُدٌّ، والوُد سيجعله الله في المستقبل عطاءًا نتيجة جهادهم وجدِّهم في طاعة ربهم، والاقتداء بهدي نبيهم صلوات ربي وتسليماته عليه.
فالقلب الحقيقي الذي فيه الإيمان، والذي فيه الحب لحضرة الرحمن، والذي فيه الحب لمن تحبه من بني الإنسان، والذي فيه البُغض، والذي فيه الكره والغل والحقد والحسد وما شابه ذلك، وليس الشكل الصنوبري الموجود في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، وإلا فلو نقلنا قلباً - كما يحدث الآن في بلاد الغرب - من رجل مؤمن إلى رجل غير مؤمن لانتقل معه الإيمان، لكن هل هذ ايحدث؟ أبداً.
وكذلك لو نقلنا قلباً من رجل قلبه مملوء بالحب لفلان وفلان إلى إنسان آخر هل يظل الآخر متعلقاً بحب هؤلاء؟ لا، لأن هذا دليلٌ على أن هذا القلب آلة جسمانية لضخ الدم في هذه الأعضاء البشرية.
أما القلب الحقيقي فهو الذي فيه الإيمان، وهو الذي فيه الحب، وهو الذي به القرب، وهو الذي يُملأ بالزهد، ويُملأ بالورع، ويُملأ بالخشوع، ويُملأ بالحضور ومراقبة الرقيب سبحانه وتعالى، هذا هو القلب السليم.
حقيقة الصدور
ولذلك يقول الله تبارك وتعالى عن المؤمنين: " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ " (47الحجر) لم يقُل: ونزعنا ما في قلوبهم، أي أن الغل والبغض والكره والحقد وغيرها تكون في الصدور، لأن القلب لا يقبلها، فإذا امتلأ الإنسان بالغل على إنسان، وحاول أن يُدخل ذلك في قلبه، لا يقبلها القلب فترجع إلى الصدر مرة أخرى، والصدر هو الذي يُصدر الأوامر لكل مملكة الإنسان، فهو كالحكومة أو مجلس الوزراء الذي يُصدر الأوامر لكل إنسان في مملكته التي خصَّه بها الرحمن سبحانه وتعالى.
ولذلك عندما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً وسوسة الشيطان، قال سبحانه وتعالى: " الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ " (5الناس) لم يقُل في القلب، لأن قلب المؤمن مملوء بالأنوار، والشيطان حريص على نفسه، فلو ذهب إلى هذه الأنوار يحترق فوراً من نور الواحد القهار سبحانه وتعالى.
وهذه الأنوار يعبِّر عنها سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فيقول: ((لو كُشف عن نور المؤمن العاصي لملأ ما بين السماء والأرض، فما بالك بالمؤمن المطيع؟!)) فإذا كان نور قلب المؤمن العاصي يملأ ما بين السماء والأرض، فكيف يحمله هذا الجسم الضعيف النحيف؟!.
إذاً الإنسان له جسدٌ قوي البنيان شامخ الأركان جعله الله سبحانه وتعالى هو حقيقة الإنسان، وهو صورة الحي الذي لا يموت:
{ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ }[2]
يعني خلق آدم على صورته سميعاً بصيراً، فيه كل الأسماء الحُسنى الإلهية التي تجلت عليه تجلياً يقينياً من رب البرية سبحانه وتعالى.
جهاد القلب
هذا القلب يحتاج إلى جهاد حتى تنزل هذه العطايا التي ذكرناها فيه، والتي أشرنا إلى بعضها، ولكن جهاد القلب يكون بعد مخالفة النفس مخالفة تامة في كل أمر نهى الله عنه، وتُحاول أن تجرنا إليه، فيبدأ الإنسان الجهاد أولاً بجهاد النفس، وجهاد النفس بمخالفتها في كل أمر تحاول أن تجرُّ الإنسان إليه لأنه كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
هي النفس للداني تحن وترغب | وللعاجل الفاني تميل وتطلب |