Visits number:202
Downloads number:7

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهِ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (24) (الأجزاب).
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
هذه الآيات الكريمة التي إستمعنا إليها الآن، آيات من سورة الأحزاب وهي تفصِّل جانباً من غزوة الأحزاب التي تعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلَّم وصحبه الكرام في المدينة النورة.
وكالمعتاد نبين أولاً أسباب نزول الآية، ثم نأخذ منها إشراقات وأنوار بينات نهتدي بها في سيرنا وسلوكنا إلى الله تبارك وتعالى.
لما تجمَّع الأحزاب حول المدينة المنورة، وكانت المدينة يحيط بها من ثلاث جهات جبالٌ وزروعات، فكان يستحيل على جموع الكافرين وكانت قريش ومعها قبيلة غطفان وقبائل أخرى كُفر بلغ عددهم حوالي عشرة آلاف مقاتل، فلم يكن لهم مجالٌ يدخلون منه إلى المدينة المنورة وقد حاصروها إلاَّ مجال واحد من جهة جبل أُحد.
والنبي صلى الله عليه وسلَّم هو المثل الأعلى لنا جماعة المؤمنين في كل شأنٍ ذي بال، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلَّم يستشير أصحابه في أي أمرٍ يخص الجميع، ويستشير خاصة أصحابه في الأمور التي تخصه في نفسه، الأمور العامة التي تهم جموع المسلمين يستشير فيها جمٌّ من زعماء المسلمين.
وكانوا يُسمون ؟أهل الحِلُّ والعقد، وفي العصر الحديث مجلس الشورى، أو مجلس النواب أو مجلس الأمة، أي شاكلة من هذه الأسماء.
وإذا كان أمراً خاصاً بنفسه في حياته الشخصية أيضاً لا يستقل به، وكان يستشير خاصة أصحابه، فمثلاً عند خروجه لغزوة بدر، جمع أصحابه وقال لهم: ما رأيكم؟ فأدلى المهاجرون برأيهم، فالتفت إلى الأنصار وكانوا أغلب الجموع الحاضرة، وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس، يعني لابد أن يعرف رأيهم هم الآخرين، فاستشار الجموع كلهم.
وكذلك فيما نحن فيه في غزوة الخندق إستشار الجموع، فأشار سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يحفر صلى الله عليه وسلَّم وصحبه الكرام جهة جبل أُحد وهي المنفذ الوحيد للأعداء خندقاً كبيراً لا يستيطعون عبوره ولا الدخول منه إلى المدينة المنورة.
وكانت حيلة جديدة لا يعرفها العرب، لأن العرب كانت حروبهم سريعة ـ خطف ـ كانوا يحاربون للرعي وأماكن الإقامة، فكانت الحرب ساعة من الصباح أو ساعة من المساء، فلا تأخذ أكثر من ذلك بين قبيلتين، وليس فيها هذه الحروب الطويلة التي يعرفها الجماعة الفرس، والفرس دولة كبيرة بينها وبين الروم وغيرهم حروبٌ لا تنتهي.
لكن في أموره الخاصة كان يشاور خاصة الخاصة، عندما حدثت حادثة السيدة عائشة رضي الله عنها، وأخذ المنافقون يلوكون بألسنتهم في عِرضها، أخذ يسأل خاصة أصحابه واحداً تلو الآخر، فلم يجمعهم فسأل عليّ، مارأيك يا عليّ؟ وسأل زوجات النبي الأخريات، وسأل عمر ما رأيك يا عمر؟ وسأل خاصة أصحابه، حتى في أموره الخاصة فكان يستشير أقرب الناس إليه، لأن الله عز وجل قال له:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ ﴾ (159آل عمران).
فكان يشاور في كل أمرٍ صلوات ربي وتسليماته عليه حتى في أموره الخاصة.
أيضاً لما أمره مولاه تبارك وتعالى كما في هذه السورة سورة الأحزاب بالزواج من السيدة زينب بنت جحش، أخذ يستشير أصحابه الملاصقين له، ويسمونهم الخاصة واحداً تلو الآخر، وهكذا علمنا صلى الله عليه وسلَّم أن نجعل الشورى هي أساس حياتنا في كل أمورنا كلها، ما صغُر منها وما كبُر.
ونعلم صغارنا المشورة ونشركهم معنا ليتعلموا هذا النهج النبوي، ويمشوا على هذا التقليد الرباني، فإن الله تبارك وتعالى لم يكن في حاجة إلى أن يستشير ملائكته، لكنه علمنا وقال لنا:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً ـ يعني ما رأيكم؟ ـ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ـ كسكَّان الأرض الذين كانوا يسكنون عليها قبل آدم؟ ونحن هنا ـ وزكُّوا أنفسهم ـ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ (30البقرة).
فعلموا أنهم أخطأوا وماكان ينببغي أن يراجعوا الله في أمرٍ قضاه، وأنه إنما استشارهم لحكمة يعلمها الله تبارك وتعالى وليس ليأخذ برأيهم، فإنه أحكم الحاكمين ورب العالمين تبارك وتعالى.
فذهبوا إلى البيت المعمور فوق السماء السابعة، وأخذوا يطوفون حوله تائبين منيبين ضارعين إلى الله عز وجل أن يتوب عليهم من هذا الموقف الذي إتخذوه، وما كان ينبغي لهم إساءة الأدب بهذه الطريقة في مواجهة رب العالمين القادر المقتدر سبحانه وتعالى.
كان ينبغي لهم أن يقولوا كما قالوا بعد ذلك:
﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ (32البقرة).
مالنا وما لهذا الموضوع:
﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ (32البقرة).
فالرسول صلى الله عليه وسلَّم كان يشاور أصحابه، وعندما أشار عليهم سلمان بحفر الخندق ووافقوا، بدأ الحفر فجمعهم ووزَّع عليهم أماكن الحفر في هذا الخندق، قبيلة كذا عليها من هنا إلى هنا، وقبيلة كذا عليها من هنا إلى هنا، والمفترض في مثل هذه الأمور أن القائد العام يجلس في خيمة ويستريح، ويأتيه ما يبغيه من الطعام والشراب، وهناك مستشارين يأتونه بالخبر في كل وقتٍ وحين، لكن القائد العام لجميع الأنام في الدنيا ويوم الزحام صلى الله عليه وسلَّم ضرب لنا مثلاً فذَّاً:
شاركهم في الحفر بذاته الشريفه، وكانت الصخرة التي تستعصي عليهم، وأرض المدينة أرضٌ صخرية، ولا يستطيعون إزاحتها أو قطعها يستدعون لها حضرة النبي، فيمسك صلى الله عليه وسلَّم الآلة بيده الشريفة ويضرب بها الضربة فتتفتَّت إلى أجزاءٍ صغيرة، لأنه يُعلمهم أنه يستعين بمولاه، ومن إستعان بالله أعانه وقواه.
بل إنه صلى الله عليه وسلَّم في وسط هذا الهم الذي هم فيه، والغم الذي إنتابهم، وجدوا صخرة عجزوا جميعاً عن تفتيتها فاستدعوه لها صلى الله عليه وسلَّم، فضرب الصخرة بيمناه فظهر شعاع كالبرق، فقال:
(الله أكبر فُتحت بلاد فارس).
[رواه البراء بن عازب ـ النسائي والبيهقي].
أين هم وأين بلاد فارس؟ فهم يريدون أن ينجوا من هذه الكارثة التي هم فيها، فهل يبشرهم بفتح بلاد فاس؟ ثم ضرب الضربة الثانية، وقال: بعد أن خرجت شرارة أُخرى كالبرق:
(الله أكبر فُتحت بلاد الشام).
[رواه البراء بن عازب ـ النسائي والبيهقي].
سبحان الله إستبشر بما بشره به مولاه تبارك وتعالى، وكأنه صلى الله عليه وسلَّم في هذه الضربات كشف الله عز وجل له الأحداث المستقبلية، ورأى جيوش المسلمين وهي تدخل بلاد الفرس فاتحة، وهي تدخل بلاد الشام فاتحة بإذن الله تبارك وتعالى.
وأعلمنا بذلك أن سلاح البُشريات الذي يُبشر بها الله المؤمن في كل الأوقات، وهذا ما يجعله يستبشر دائماً بنعمة من الله وفضل:
﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ ﴾ (171آل عمران).
فلا يقنط ولايحزن ولا ييأس ولا يتملك منه همٌّ ولا غم، لأن الله بشره.
والنبي صلى الله عليه وسلَّم بُشر في اليقظة، والمؤمنين الصادقين يبشرهم الله تبارك وتعالى في المنام قال صلى الله عليه وسلَّم:
(لم يبقى بعدي إلا المبشرات الصالحات، يراها الرجل المؤمن أو تُرى له).
[راوه أبو هريرة رضي الله عنه الصحيحين].
إما أن يراها بنفسه، وإما أن يراها له رجلٌ من المقربين، أو محبوبٌ من المحبوبين ليكون على يقين أن هذه بشرى من رب العالمين تبارك وتعالى، ولكن البشرى لن تأتي للغافلين ولا للجاهلين، ولكن تأتي لأهل اليقين ـ نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون منهم أجمعين.
فكان يشاركهم صلى الله عليه وسلَّم في حفر الخندق بذاته الشريفة، وكان يشاركهم في حمل التراب على كتفه ليخرجه خارج الخندق، وكان يشاركهم في الجوع، لأنه كان في الخندق وكان وقت ليس فيه أقواتٌ كافية لأهل المدينة، فلم يُخزنوا أقواتاً لهذه الحرب، ولذلك سيدنا جابر رضي الله عنه وأرضاه نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فرأى على وجه حضرته أثر السِقم والجوع والضَنى.
فذهب إلى إمرأته وقال: يا أم فلان رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ويظهر عليه أثر السقم والجوع والضنى، فهل عندنا من شيئ نضيِّفه؟ قالت: ليس عندنا إلا عناق ـ وعناق يعني ماعز صغير ـ قال: إذبحيها وأَدعوه، قالت: إذهب إليه وادعوه، وأطلب منه أن لا يزيد عدد من معه عن عشرة، يعني الطعام الذي عندنا لا يكفي إلا عشرة.
فذهب إليه وكانوا من لطفهم وقربهم من ربهم كلهم غاية في الذوق اللطف، كلما قرُب الإنسان من مولاه، كلما زاد في الذوق السديد، واللطف الرشيد، وكان من المُلهمين ما يحبه الله تبارك وتعالى من عباده المخلصين في كل وقتٍ وحين.
فقرب من أذن رسول الله وأسرَّ إليه ـ يعني كلمه في أذنه حتى لا يسمع أحدٌ ـ وقال: يا رسول الله ندعوك لطعام الغذاء على أن لا تُحضر معك أكثر من عشرة، فقال صلى الله عليه وسلَّم: إسبقنا إلى المنزل، وبمجرد أن مشى الرجل ـ وكان للرسول صلى الله عليه وسلَّم دائماً منادي، والمنادي يكون صوته عالي ينبِّه على الناس بما يريده سيد الناس صلى الله عليه وسلَّم، وكان أيضاً في الصلاة يُردد وراءه ما يقوله في الصلاة، والذي نسميه المبلغ، ولم يعد موجود الآن لوجود الميكروفونات، لكنه كان موجوداً إلى عصرٍ قريب.
فبمجرد أن مشى الرجل نادى المنادي وقال له: نادي على أهل الخندق، وقُل لهم: أخوكم جابر يدعوكم إلى طعام الغداء، فكل من بيده فأس أو في يده آلة رماها لأنهم جعانين كلهم، وخرجوا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وقيل أن عددهم كان يزيد على الثلاثمائة.
فلما رأت زوجة جابر الجموع الآتية، قالت له: ما صنعت بنا؟ ألم أقُل لك قُل لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يزيد عدد من معه عن عشرة؟ قال: والله لقد بلغته، وقلت له ذلك في أُذنه، ماذا قالت؟ قالت: إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أعلم بما يفعل ـ ولم تعترض ولكن مادام هو من فعل ذلك فهو حُرٌّ.
معه التصريف من حضرة المصرف سبحانه وتعالى.
والرجل كذلك لم يسكت عندما وصل إليه صلى الله عليه وسلَّم، قال: يا رسول الله ماذا فعلت بنا؟ قال: لا تخف، وادع الناس عشرةً عشرة، حتى يأكلوا ويشبعوا، وأرني طعامك، فراح على الإناء الذي فيه