Advanced search

دروس Related

  • صلاة التراويح أهميتها وفوائدها

    More
  • المفطرات المعنوية الرفث و الفسوق

    More
  • المفطرات المعنوية-الغيبة والنميمة

    More
View all

New الدروس

  • صلاة التراويح أهميتها وفوائدها

    More
  • المفطرات المعنوية الرفث و الفسوق

    More
  • المفطرات المعنوية-الغيبة والنميمة

    More
اعرض الكل

Most visited

  • آداب العزاء للسيدات

    More
  • أحداث آخر الزمان والقضاء علي اليهود

    More
  • رسالة التمام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)ـ

    More
View all

الكوثر المشهود والحوض المورود

Visits number:22 Downloads number:1
Download video Watch Download audio Listen
الكوثر المشهود والحوض المورود
Print Friendly, PDF & Email
+A -A



الكوثر المشهود والحوض المورود

نسمع دائماً عن الكوثر وفي ذهننا أنه شيء واحد، لكن خصَّ الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه الكوثر المشهود والحوض المورود، قال صلى الله عليه وسلَّم في قول الله: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ " (1الكوثر):

{ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ}[1]

والكوثر في الآية ليس مُحدداً، سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كل عطاءات الله التي خصَّه بها مولاه هي الكوثر، قيل له: وما نهر الكوثر؟ قال: هو من جملة عطاءات الله.

فكل عطاءات الله التي خصَّ بها الله حبيبه ومصطفاه هي الكوثر، لماذا؟ لأن الكوثر معناه في اللغة الخير الكثير، والخير الكثير تشمل كل الخيرات التي وهبها الله خصوصية لحضرته دون سائر السابقين ودون الملائكة المقربين، لأنه صلى الله عليه وسلَّم إمام الخلائق والملائك والجن والإنس أجمعين.

أما الحوض فهو الذي يتنزل فيه قطرات من الكوثر في أرض المحشر، حتى نتناول من هذه القطرات مايجعلنا لا نحس بظمأ ولا عطش في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقال عنه صلى الله عليه وسلم:

{ حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْه فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا }[2]

أهل النور التام

يوم القيامة ليس فيه شمس لأن من علامات القيامة الكبرى: " وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ " (9القيامة) تنتهي الشمس وينتهي القمر، فأرض المحشر ليس فيها نور كهرباء ولا نور شمس ولا نور قمر، فمن الذي ينير لك؟ نور عملك: " وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " (40النور) من أين يأتي النور؟ من عملك: " نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8التحريم) نور أعمالهم ينير لهم أمامهم، وأخذوا الصحف باليمين والصحف أيضاً نور.

وتمام النور بأن يعطيهم الله نوراً من نوره يتمتعون فيه بشهود جماله تبارك وتعالى: " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " (22-23القيامة) والمؤمنون سيكونون درجات في هذا النور، درجة يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُضِيءُ نُورُهُ إِلا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ }[3]

أين هذا النور؟ في الأصبع الكبير في قدمه، وهل هذا فقط؟ لا، قال:

{ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى عَمُودٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ فِي رَأْسِ الْعَمُودِ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ يُضِيءُ حُسْنُهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةَ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ أَهْلَ الدُّنْيَا }[4]

" هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله " (163آل عمران) وانتبه للآية فلم يقُل: لهم درجات، ولكن قال: (هم درجات) يعني هم أنفسهم الدرجات عند الله، فسيكون نور الإنسان هو الذي يضيئ له في الموقف العظيم.

الكافرون والمشركون والجاحدون والملحدون والعصاة والمذنبون الذين لم يتوبوا حتى أتاهم الموت، هؤلاء سيكونوا في كرب شديد، وأهوال عظام.

النشأة الثانية

الخِلقة ستكون غير هذه الخِلقة، فكلنا سنأتي يوم القيامة على هيئة آدم، الطول سبعة وستين ذراعاً، وحجم الإنسان على قدر مقامه عند الرحمن، وسيكون هناك تغيير فسيولوجي، فإذا كان الإنسان ذاهب إلى الجنة فإن الجنة ليس فيها دورات مياه، ولا تحتاج إلى أدوات صحية، فكيف يكون الإخراج؟ كل فاكهة الجنة عكس فاكهة الدنيا ليس لها فضلات، وأعظم الطعام كما قال الله: " وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ " (20-21الواقعة) فالفاكهة أعظم، ولذلك الصالحين والعارفين دائماً حريصين أن يكون معظم طعامهم الفاكهة، لأن فضلاتها بسيطة، حتى أن حضرة النبي مثَّل لنا فاكهة منها عندما أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَبَقٍ فِيهِ تِينٌ فَأَطَلَّ، وَقَالَ لأَصْحَابِهِ:

{ كُلُوا، فَلْو قُلْتُ أَنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ بِلا عُجْمٍ، لَقُلْتُ هَذَا التِّينُ }[5]

ففاكهة الجنة ستكون بهذه الكيفية، وأين تذهب الفضلات؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟، قَالَ: جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ }[6]

الفضلات ستخرج كعرق رائحته مثل رائحة المسك.

حال أهل الجنة

وعندما ننظر ملياً نجد أن هذا الأمر كان مع رسول الله في الدنيا، فكان في الدنيا كثير العرق وله رائحة كرائحة المسك، وعندما يسلم على أحد يشموا منه رائحة المسك لمدة أيام متتالية.

وكان يقيل عند السيدة أم سليم أم سيدنا أنس بن مالك، وكانت من كبريات الصالحات، وفي ذات يوم من الأيام استيقظ فوجدها قد أحضرت مناديل وتجفف بهم العرق وتعصرهم في زجاجة، فقال:

{ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟، قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ، نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ }[7]

وكن نساء الأنصار يطلبن عرقه، ويقلن: نُصلح به طيبنا، لأنه أطيب الطيب، يعني كما يقولون كمادة الإثير وهي المادة التي تُصلح العطر، فكانت رائحة عرقه كرائحة المسك.

وكان صلى الله عليه وسلَّم إذا أراد قضاء حاجته وهو سائر في الغزوات يبتعد، وكان المتولي وضوءه وحمل نعله وعصاه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فيقول:

{ كَنا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم فِي سَفَرٍ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَائِطِ أَبْعَدَ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَبَصُرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم بِشَجَرَتَيْنِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، اذْهَبْ إِلَى هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقُلْ لَهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم يَأْمُرُكُمَا أَنْ تَجْتَمِعَا لَهُ لِيَتَوَارَى بِكُمَا، فَمَشَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم حَاجَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَتَا إِلَى مَكَانِهِمَا }[8]

وهذا الأمر تكرر مرات كثيرة وليست مرة واحدة، وكانوا بعد أن يقضي رسول الله حاجته يذهبون للمكان الذي قضى فيه حاجته فلا يجدون شيئاً، فسألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ يَا عَائِشَةُ، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ نَبَتَتْ أَجْسَادُنَا عَلَى أَرْوَاحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَا خَرَجَ مِنَّا شَيْءٌ ابْتَلَعَتْهُ الأَرْض }[9]

فكان صلوات ربي وتسليماته عليه وهو في الدنيا بمواصفات أهل الجنة.

فالظالمين أنفسهم أجمعين سيكونون في كرب شديد وفي عرق شديد كما وصفهم صلى الله عليه وسلم:

{ تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ }[10]

من شدة حرارة الأرض أرض الموقف، والكل يتمنى أن يخرج من هذا المكان، وتصدر من جهنم مناورات كل حين: " إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ " (32المرسلات) وترسل دخان يزكم الأنوف.

فأين نكون نحن؟ إما قدام العرش، أو تحت ظل العرش، والأعيان منا يخرجون من القبور إلى القصور، ويجلسون في شرفاتهم يشاهدون: " عَلَى الارَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ " (23-24المطففين) والخدم يأتون لهم وهم جالسون في الشرفات: " يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " (25-26المطففين) أما أهل اليمين فإنهم يحاسبون حساباً يسيراً من الله عز وجل.

حوض الكوثر

فأهل الموقف في يوم مقداره خمسين ألف سنة من أين يشربون؟ ليس هناك إلا حوض الكوثر الذي ينزل فيه قطرات من نهر الكوثر في الجنة، وعليه آنية كما قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ }[11]

هل يستطيع أحد أن يعد نجوم السماء؟ لا أحد، فكل واحد منا له كوز خاص به، والكوز يعني كوب له أذن، ومكتوب عليه اسمه.

فمنهم الأوائل الذين سيسقيهم سيدنا رسول الله بنفسه، ولذلك الصالحون كانوا يدعون الله ونحن معهم نقول: (واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً).

قد يتكلم واحد بعقله ويقول: هل يده هذه تكفي كل هؤلاء الناس؟ " لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " (101المائدة) هذا شيء غيبي، فيد واحدة ممكن أن تسقي الكون كله، كيف؟ هذا أمر فوق العقل وفوق الخيال.

ومنهم من يسقيه الصِدِّيق، ومنهم من يسقيه الفاروق، ومنهم من يسقيه وليّ من أولياء الله، ومنهم من يسقيه عظماء الملائكة، ومنهم من يسقيه أحد الملائكة، وكل واحد حسب مقامه: " وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ " (164الصافات).

حوض الكوثر يكون في الموقف، ونهر الكوثر يكون في الجنة، فهناك فرق بين الحوض وبين النهر.

وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان الله عز وجل يضرب له الأمثال على الفور، حتى كل شيء يؤيد بتأييد من الله، وهذا الحال مع الورثة، يتكلم في كلام فيجعل مثلاً يراه الأنام ليعرف الناس أنه مؤيد من الملك العلام سبحانه وتعالى.

الشرب من الكوثر في الدنيا

كيف نشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا؟ السيدة أم أيمن حاضنة النبي، كانت مع أمه السيدة آمنة تربيه وتشرف عليه، وكانت هي التي حملته مع أمه عندما ذهبت السيدة آمنة لتزور قبر أبيه عبد الله في المدينة، وماتت في عودتها في مكان اسمه (الأبواء) موجود قريب من المدينة، فحملته السيدة أم أيمن وأكملت الرحلة حتى أوصلته إلى جده عبد المطلب، وهذه التي قال فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال لأصحابه يوماً:

{ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَتَزَوَّجْ أُمَّ أَيْمَنَ }[12]

هي من أهل الجنة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة، هاجرت هي وحدها، وهذه لا يفعلها أحد إلا إذا كان توكله على الله شديد، كيف تهاجر امرأة في هذه الصحراء وحدها؟! وأثناء مسيرها وجدت جماعة من اليهود مسافرين، فمشت معهم لتأتنس بهم، فلما علم كبيرهم أنها مسلمة أحكم غطاء الأسقية التي كانت معهم، ونبَّه على من معه تنبيهاً شديداً وحذرهم: إياكم أن تسقوها شربة ماء، فقلوب اليهود أشد قسوة من الحجارة كما وصفهم ربنا، ولذلك تراهم في الحروب ليس عندهم رحمة أو هوادة أو لين للشيوخ أو للنساء أو للأطفال أو غيره، بل يتلذذون ويتشفُّون بما يفعلوه.

فتقول: بلغ بي العطش أني كدتُ لا أسمع، وبعدها بلغ بي العطش إني كدتُ لا أرى، وإذا بدلو يتدلى بحبل من السماء حتى وصل إليَّ فأخذته وشربتُ منه، وأردتُ أن أستزيد، فارتفع الحبل بالدلو لأنها ظمآنة والحر شديد فلو شربت سيتفتت الكبد على الفور، وهذه الحكمة الصحية لخير البرية:

{ إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا، وَلا يَعُبُّ عَبًّا فَإِنَّ الْكِبَادَ مِنَ الْعَبِّ }[13]

لماذا انتشر مرض الكبد في زماننا؟ لهذا السبب، فيأتي الرجل من الخارج وكله عرق فيُخرج زجاجة مياه من الثلاجة ويشرب، والكبد مطبخ الجسم، فهو الذي يطبخ الطعام ويحوله إلى دم صالح لكل أعضاء الإنسان، وكل عضو له طعام معين، العين لها طعام، والأُذن لها طعام والأنف له طعام، والشعر له طعام، وكله من الدم، من الذي ينتج هذا كله ويحوله؟ الكبد، ولذلك إلى وقتنا هذا لم ينته العلماء من كشف وظائف الكبد، فيحتاج من الإنسان أن يمص الماء، ويشرب على دفعات، وسيدنا رسول الله كان يشرب على ثلاث، وفي كل مرة يقول في البداية: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد أن ينته يقول:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ملحًا أُجَاجًا بذنوبنا }[14]

ونزل الحبل لها مرة ثانية فشربت وأيضاً ارتفع، وفي المرة الثالثة شربت وارتوت وبقي ماء في الدلو فصبته على جسمها من حرارة الجو، فرآها اليهودي وكاد يُجنُّ، فذهب لمن عنده في ثورة كهياج الثور، وقال لهم: من الذي سقى هذه المسلمة؟ قالوا: لا أحد وانظر إلى آنيتك، فوجد الآنية كما هي برباطها الذي ربطه، فذهب إليها وسألها: كيف شربتِ؟ فحكت له، وكانت السبب في إسلامه وإسلام من معه:

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان

أمان لا تخاف أبداً: " وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا " (2الطلاق) فهو يُضيق المخارج، ورب المخارج يفتح المخارج للإنسان.

فتقول وهذا هو الشاهد: وكنت بعدها لا أشعر بظمأ ولا عطش أبداً حتى كنت أتحرَّى اليوم الصائف شديد الحرارة وأصوم لعلي أجد الظمأ فلا أجده، وأتحرى حر الظهيرة اللهيب وأطوف بالبيت لعلي أجد الظمأ فلا أجده أيضاً.

فبذلك تكون قد شربت من الكوثر وهي في الدنيا، هناك من يشرب من الكوثر يقظة، وهناك من يشرب مناماً، وغير ذلك إلى ما لا نهاية إن شاء الله، وكل هذا من نهر الكوثر، ومنه يُشتقُّ حوض الكوثر.

الكوثر المشهود

ولكننا نقول هنا: (وأعطاه الكوثر المشهود) ما هذا الكوثر المشهود؟ الكون كله منفعل بتجليات أسماء الله، ولكن لا يشهدها إلا قلب مُلئ بنور الله، ولم يعد فيه غير مولاه تبارك وتعالى، ماذا يشاهد؟ " اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ " (35النور).

يعني هذا الإنسان بماذا ينظر؟ بتجلي اسم الله البصير، فلو أنزل البصير سحائبه الكثيفة على العين ضاع البصر في الحال، ويسمع بسر اسم الله السميع، ويتكلم باسم الله المتكلم، وإذا تجلى عليه الحي احتيا، وإذا تجلى عليه المميت مات في الحال، فكل هذه تجليات الأسماء والصفات الإلهية، ولذلك الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه يقول: (يا أيها الإنسان تنظر بشحمة، وتنطق بلحمة، وتسمع بعظمة) هل هذه العظمة هي التي تسمع؟ وهل هذه الشحمة هي التي تنظر؟ وهل هذه اللحمة هي التي تنطق؟ لو كان هكذا فلا ينقص شيء من هؤلاء عند وفاة الإنسان، لكنه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يسمع ولا يشاهد لأنها تجليات حضرة الرحمن سبحانه وتعالى.

ولذلك العارفين عندما يبدأون في المكاشفات الإلهية يكون أول المكاشفات رؤية تجليات الأسماء والصفات فيهم وفي كل من حولهم من المخلوقات، فيشاهدوا الحقائق التي فيها، يقول فيها الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:

وإن نظرت عيني إلى أي كائن

تغيب المباني والمعاني سواطع

يرى المعاني التي بداخل المباني، وسيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: كنت سائراً في الصحراء فأخذني حصر البول، وقوي عليَّ النور فرأيتُ الصحراء كلها نور، فاحترت هل أتبول على نور؟! فقلت: يا رب احجبني عن هذا المقام، فقيل لي: لو سألتنا بكل أنبيائنا ورسلنا ما حجبناك، ولكن سلنا أن نقويك، فقواني الله تبارك وتعالى فنظرتُ بالعينين ورأيت المشهدين.

وهذا المقام العالي الذي يبلغه كُمَّل العارفين، عين الرأس ترى الكائنات، وعين القلب ترى أنوار الله القائمة بها هذه الكائنات، هذا المشهد يرتقي فيه الإنسان إلى أن يرى انفعال الأكوان بأسماء حضرة الرحمن، وهذا اسمه (حوض التجليات الإلهية).

والتجليات الإلهية تكون كحوض الكوثر تشبيهاً لتقريب الحقيقة، لأن الحقيقة في ذاتها مرٌّ علقم لا يستطيع أحد أن يذوقها ولا أن يتذوقها إلا إذا عرفها وأهَّلوه لها، وهذا بابه ورحابه وساقيه هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فهو صلى الله عليه وسلَّم صاحب الحوض المورود.

المقام المحمود

المقام المحمود يقول له فيه ربه: " عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا " (79الإسراء) والذي أشار إليه صلى الله عليه وسلَّم فقال في حديثه:

{ أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ }[15]

من أول من يخرج عند البعث؟ هو صلى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أخرى:

{ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ }[16]

وفي حديث آخر قال:

{ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي }[17]

فهو صاحب اللواء، ولذلك المقام المحمود فيه نواحي من العظمة متعددة، من داخله هو صاحب لواء الحمد، ومن داخله هو صاحب الشفاعة، ومن داخله هو صاحب الإمامة في الصلاة، لأن بعد وقوف الناس في الموقف العظيم، الناس سيبحثون عن مخرج، فلمن يذهبوا؟ يذهبون لأنبياء الله ورسله، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيم، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا }[18]

كل واحد من الأنبياء يأتى بمبرر لعدم أهليته، ويقول: لست لها، إلا النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: أنا لها، لماذا الناس يذهبون إلى الأنبياء السابقين أولى العزم؟ الأمر الأول: حتى تظهر منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وبركته عند الله، لأنهم لو ذهبوا إليه مباشرة كان البعض سيقول: أي نبي كان يستطيع أن يقوم بهذا الأمر، لكنهم جميعاً أثبتوا عجزهم، وهو صلى الله عليه وسلَّم وحده الذي أثبت أحقيته بهذا المقام، وهو مقام الشفاعة العُظمى لأهل الموقف جميعاً، لأن هناك شفاعات بعدها لا تُعد ولا تُحد.

الأمر الثاني: حتى لا تتوه أمته مع التائهين وتذهب لفلان أو غيره، ولكن نذهب له مباشرة، لأننا عرفنا الأمر، فالآخرين لهم العُذر لأنهم لم يعرفوا قدر النبي لكننا عرفنا قدره، فما الذي يجعلنا نمشي مع الهمج الرعاع في الموقف ونذهب لهذا وهذا؟! نحن نتمسك بحضرته ونضع خدودنا على أعتاب سدرته، ونُمرغ خدودنا دائماً على أرجل حضرته، ونتمسك به في الدنيا، وعند خروج أرواحنا، وعند البعث والنشور عند ربنا تبارك وتعالى، وعند دخول الجنة.

سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما يذهبون له يسجد تحت العرش، ويحمد الله تبارك وتعالى بمحامد يقول فيها:

{ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ }[19]

ولِمَ لم يقلها؟ لأننا لا نستطيع إدراكها ولا معرفة فحواها ولا فهمها، فهذه خصوصية له علَّمها له الله قبل القبل، فأول ما خلق الله خلق حبيبه محمد، وكان بمفرده يطوف حول العرش، ويسبح الله ويحمد الله بمحامد علَّمها له الله ليست موجودة في التشريع عندنا، وهي التي يقول فيها الله: " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ " (81الزخرف) أنا أول واحد عبدت الله قبل الملائكة المقربين وقبل الأنبياء والمرسلين وغيرهم، هذه العبادة علَّمها له الله، وسيكشفها لنا في يوم الفزع الأكبر ليرفع فيها الكرب عن الناس أجمعين.

وهذه الشفاعة العظمى حتى يبدأ الحساب في أرض القيامة، بماذا يبدأ الحساب؟ بصلاة الجماعة، ينادي الأمين جبريل: الصلاة جامعة، ومن الذي يؤم الخلائق أجمعين؟ سيد الأنبياء والمرسلين، لماذا هذه الصلاة؟ لتكشف المنافقين والمرائين والمدَّعين والكاذبين، فهؤلاء في الدنيا تجد الواحد منهم يذهب للمسجد ويرانا ونراه ونسلم عليه حتى نثق فيه، إن كان صانع يصنع لنا حاجياتنا، وإن كان تاجر نشتري من عنده، فنحن لا نعرف عنه شيئاً لأن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، وأعضاؤه في الدنيا ولاَّه الله قيادتها، لكن هناك: " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ " (42القلم) يحاول أن يسجد والأعضاء لن تطاوعه، لا وسطه ينحني، ولا يديه تنثني فيتخشب واقفاً، لماذا؟ ليظهر كذبه ورياؤه ونفاقه أمام الخلق أجمعين، وهذا خزي عظيم.

وحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بشَّره الله وبشَّرنا أننا لن ندخل في هذا الخزي إذا صدقنا مع الله: " يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ " (8التحريم) لم يقُل آمنوا معه في زمانه، ولا في مدينته، ولكن الذين آمنوا معه إلى يوم القيامة، ولذلك أعطى النبي لكل جماعة رتبة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي }[20]

وقال فينا صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ لأنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانَاً وَلَاَ يَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانَاً }[21]

وليس معنى هذا أن يأتي واحد منا ويقول كالجُهَّال: أنا أحسن من الصِدِّيق وأحسن من الفاروق، فأنا عملي بخمسين منهم، فهذا جهل بيِّن، فقد قال: أجر الواحد منهم، لكن لن يكون واحد منا كأصبع واحد منهم، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا }[22]

وقال:

{ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ }[23]

لن تحصلهم في الرتبة والمقام، لكن العمل ستأخذ عليه الأجر والثواب، لكن ماذا نفعل بالعمل والثواب؟ أنا سأدخل في بنك الجنة ولي مليارات لا تُعد من الثواب والحسنات، لكنني لست من أصحاب المقامات والدرجات، فما فائدة هذا الرصيد؟! وماذا أفعل به؟ أريد درجة عند رفيع الدرجات، فهذه أهم عندي من الحسنات والثواب وما شابه ذلك.

أقسام أهل الموقف

يأتي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يفتتح الحساب بالصلاة جامعة، فينقسم الناس في الحساب إلى أقسام أربعة:

القسم الأول: جماعة يدخلون الجنة بغير حساب وليس لهم شأن بالموقف ولا بالحساب، يخرجون من القبور إلى القصور، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِي أَجْنِحَةً فَيَطِيرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى الجِنَانِ يَسْرَحُونَ فِيها وَيَتَنَعَمُونَ فِيها كَيْفَ شَاؤُوا، فَتَقُولُ لَهُمُ المَلائِكَةَ: هَلْ رَأَيْتُمُ الحِسَابَ؟ فَيَقُولُون: ما رَأَيْنَا حِسَاباً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ جُزْتُمُ الصِّرَاطَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا صِرَاطاً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ رَأَيْتُمْ جَهَنَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا، فَتَقُولُ المَلائِكَة: مِنْ أُمَّةِ مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَتَقُولُ: نَاشَدْنَاكُمْ اللَّهَ حَدِّثُونا ما كَانَتْ أَعْمَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ: خَصْلَتَانِ كَانَتَا فِينا فَبَلَغْنَا هذِهِ المَنْزِلَةَ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَيَقُولُونَ: وَما هُمَا؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا إذا خَلَوْنَا نَسْتَحِي أَنْ نَعْصِيه وَنَرْضَى بِاليَسِيرِ مِمَّا قُسِمَ لَنَا، فَتَقُولَ المَلائِكَةُ: يَحِقُّ لَكُمْ هذا }[24]

وهؤلاء نحن كلنا، لأن الله قال لنا: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " (10الزمر) فنحن كلنا صبرنا، من منا لم يصبر على بلاء تعرض له أو مرض اشتكى منه؟ ومن منا لم يصبر على قريب له أو أب أو أم أو أخ أو ابن توفاه الله وصبر لأمر الله؟ كلنا سندخل في ذلك إلا الذين يأتيهم الجزع والضجر، وأيضاً لو رجعوا إلى الله سيُدخلهم الله عز وجل بفضله ورحمته اكراماً لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ }[25]

لماذا تأتي لنا هنا في الدنيا الأمراض والمشاكل والمتاعب؟ قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ }[26]

فلأنه لا يعرف أن يتوب يبتليه الله حتى يتوب عليه، إلى متى؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ }[27]

يكون مثله كمثل الملائكة المقربين ليس عليه شيء، فيطهرنا أولاً بأول حتى إذا ذهبنا إلى هناك لا يكون علينا شيء من المديونيات، وليس علينا محاضر تستوجب الشئون القانونية والجزاءات، فهؤلاء يدخلون الجنة على الفور.

القسم الثاني: فريق من الموقف يدخلون النار بلا حساب ولا عتاب ولا وزن ولا صراط: " فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا " (105الكهف) هؤلاء إلى جهنم على الفور.

القسم الثالث والرابع: صنف سيحاسب حساباً يسيراً، وصنف سيحاسب حساباً عسيراً، وهذه الحمد لله لا أحد فيها تقريباً من أمة حبيب الله ومصطفاه، إلا الذي ارتكب كبيرة من الكبائر ولم يتب منها حتى الموت، أو تباهى وافتخر بما يفعله من المنكرات والفحشاء أمام الخلق ولم يتب إلى الله تبارك وتعالى منها.

لكن ما دمنا نجتنب الكبائر، فقال لنا الله في القرآن وبشَّرنا:" إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ " (114هود) وماذا نفعل في الكبائر؟ قال: " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ " (31النساء) بماذا؟ سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بالصلاة.

ما دمت بعيد عن الكبائر، فالصغائر كلها بمجرد أن تصلي لله، يغفر الله لك ما بين الصلاتين من الصغائر لأنك رجعت إلى الله، وتبت إلى الله سبحانه وتعالى.

شفاعات النبي لأمته

بعد الشفاعة العظمى يبدأ الحساب، والحساب سيكون واقفاً معنا فيه صلى الله عليه وسلم، سيدنا أنس بن مالك يقول:

{ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: أَنَا فَاعِلٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ، قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ الْمَوَاطِنَ }[28]

من الذين سيشفع فيهم النبي؟ الذين ذكرنا أنهم سيحاسبون حساباً يسيراً، فيقف عند الميزان وعند الصراط وعند الحوض ليشفع في أمته، من الذي ينجو؟ أشار النبي إلى نموذج منهم قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ قَضَى لأَخِيهِ حَاجَةً كُنْتُ وَاقِفًا عِنْدَ مِيزَانِهِ، فَإِنْ رَجَحَ وَإِلا شَفَعْتُ لَهُ }[29]

لأنه قضى حاجة لمسلم ابتغاء وجه الله، فهؤلاء سيشفع فيهم أولاً، وبعد أن تنتهي هذه الشفاعات يقول:

{ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي }[30]

يذهب مرة ثانية عند العرش ويسجد، ويُقال له:

{ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ }[31]

وفي رواية أخرى:

{ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }[32]

يُخرج الله من قال (لا إله إلا الله) ولو مرة واحدة، وهنا كما قال الله: " رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ " (2الحجر) يقولون: ليتنا قلناها ولو مرة واحدة، أين يكون هؤلاء؟ في مكان اسمه الهاوية.

ولذلك عندما يأتي بعض الذين لا يفهمون الآيات القرآنية ويقرأ: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ " (145النساء) يظن أن ذلك أبعد دركة في جهنم، لأن الدرك هو السلالم النازلة، والدرجات هي السلالم الصاعدة وهي في الجنة، فما دام على درك من الدركات فسيصعد في يوم من الأيام، لكن الذي لن يخرج من جهنم الذين هم في الهاوية وهم تحت الدركات، لكن المنافقين في آخر درك، ولأنهم قالوا: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله باللسان، فيأتي لهم يوم يخرجون للجنة ببركة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

بعد دخول الجنة، الذين كانوا مع بعضهم في الدنيا تفرقوا لأن أحدهم في منزلة والثاني في منزلة أخرى، ولكننا نريد أن نشاهد بعضنا ونجلس مع بعضنا كما كنا في الدنيا، وهنا تأتي الشفاعة في الجنة، لرفع الدرجات في الجنة.

وشفاعة أخرى في الجنة للنظر إلى وجه الله، وغير ذلك من الشفاعات الكثيرة، أسأل الله عز وجل أن يرزقنا رؤيته وشفاعته وزيارته، وأن يجعلنا دائماً لا نغيب عنه ولا يغيب عنا طرفة عين ولا أقل

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

*****************************

درس بعد صلاة الجمعة المقطم – مجمع الفائزين 11 من ربيع الأول 1444هـ 7/10/2022م 1

[1] صحيح مسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه

[2] البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[3] جامع البيان للطبري

[4] اتحاف الخيرة المهرة للبوصيري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[5] الآثار المروية في الأطعمة العطرية لابن يشكوال عن أبي هريرة رضي الله عنه

[6] صحيح مسلم ومسند أحمد والطبراني عن جابر رضي الله عنه

[7] البيهقي والطبراني عن أنس رضي الله عنه

[8] معجم الطبراني ومسند البزار عن عبد الله  بن مسعود رضي الله عنه

[9] شعب الإيمان للبيهقي وتاريخ بغداد

[10] صحيح مسلم عن المقداد بن الأسودرضي الله عنه

[11] البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[12] سير أعلام النبلاء عن سفيان بن عقبة رضي الله عنه

[13] سنن البيهقي

[14] شعب الإيمان للبيهقي والدعاء للطبراني

[15] جامع الترمذي والدارمي عن أنس رضي الله عنه

[16] البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[17] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[18] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

[19] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

[20] مسند أحمد عن أنس رضي الله عنه

[21] جامع الترمذي وأبي داود عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه

[22] معجم الطبراني والبيهقي عن ثوبان رضي الله عنه

[23] البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[24] أخرجه الحافظ العراقي في الإحياء عن ابن حبان وأبو عبد الرحمن السلمي عن أنس رضي الله عنه

[25] سنن أبي داود والحاكم في المستدرك عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه

[26] مسند أحمد وابن حبان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[27] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[28] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه

[29] حلية الأولياء لأبي نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما

[30] جامع الترمذي وأبي داود عن أنس رضي الله عنه

[31] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

[32] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

اعلان في الاسفل

All rights reserved to Sheikh Fawzi Mohammed Abu Zeid


Up