Visits number:22
Downloads number:1

الكوثر المشهود والحوض المورود
نسمع دائماً عن الكوثر وفي ذهننا أنه شيء واحد، لكن خصَّ الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه الكوثر المشهود والحوض المورود، قال صلى الله عليه وسلَّم في قول الله: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ " (1الكوثر):
{ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ}[1]
والكوثر في الآية ليس مُحدداً، سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كل عطاءات الله التي خصَّه بها مولاه هي الكوثر، قيل له: وما نهر الكوثر؟ قال: هو من جملة عطاءات الله.
فكل عطاءات الله التي خصَّ بها الله حبيبه ومصطفاه هي الكوثر، لماذا؟ لأن الكوثر معناه في اللغة الخير الكثير، والخير الكثير تشمل كل الخيرات التي وهبها الله خصوصية لحضرته دون سائر السابقين ودون الملائكة المقربين، لأنه صلى الله عليه وسلَّم إمام الخلائق والملائك والجن والإنس أجمعين.
أما الحوض فهو الذي يتنزل فيه قطرات من الكوثر في أرض المحشر، حتى نتناول من هذه القطرات مايجعلنا لا نحس بظمأ ولا عطش في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقال عنه صلى الله عليه وسلم:
{ حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْه فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا }[2]
أهل النور التام
يوم القيامة ليس فيه شمس لأن من علامات القيامة الكبرى: " وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ " (9القيامة) تنتهي الشمس وينتهي القمر، فأرض المحشر ليس فيها نور كهرباء ولا نور شمس ولا نور قمر، فمن الذي ينير لك؟ نور عملك: " وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " (40النور) من أين يأتي النور؟ من عملك: " نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8التحريم) نور أعمالهم ينير لهم أمامهم، وأخذوا الصحف باليمين والصحف أيضاً نور.
وتمام النور بأن يعطيهم الله نوراً من نوره يتمتعون فيه بشهود جماله تبارك وتعالى: " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " (22-23القيامة) والمؤمنون سيكونون درجات في هذا النور، درجة يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُضِيءُ نُورُهُ إِلا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ }[3]
أين هذا النور؟ في الأصبع الكبير في قدمه، وهل هذا فقط؟ لا، قال:
{ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى عَمُودٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ فِي رَأْسِ الْعَمُودِ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ يُضِيءُ حُسْنُهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةَ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ أَهْلَ الدُّنْيَا }[4]
" هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله " (163آل عمران) وانتبه للآية فلم يقُل: لهم درجات، ولكن قال: (هم درجات) يعني هم أنفسهم الدرجات عند الله، فسيكون نور الإنسان هو الذي يضيئ له في الموقف العظيم.
الكافرون والمشركون والجاحدون والملحدون والعصاة والمذنبون الذين لم يتوبوا حتى أتاهم الموت، هؤلاء سيكونوا في كرب شديد، وأهوال عظام.
النشأة الثانية
الخِلقة ستكون غير هذه الخِلقة، فكلنا سنأتي يوم القيامة على هيئة آدم، الطول سبعة وستين ذراعاً، وحجم الإنسان على قدر مقامه عند الرحمن، وسيكون هناك تغيير فسيولوجي، فإذا كان الإنسان ذاهب إلى الجنة فإن الجنة ليس فيها دورات مياه، ولا تحتاج إلى أدوات صحية، فكيف يكون الإخراج؟ كل فاكهة الجنة عكس فاكهة الدنيا ليس لها فضلات، وأعظم الطعام كما قال الله: " وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ " (20-21الواقعة) فالفاكهة أعظم، ولذلك الصالحين والعارفين دائماً حريصين أن يكون معظم طعامهم الفاكهة، لأن فضلاتها بسيطة، حتى أن حضرة النبي مثَّل لنا فاكهة منها عندما أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَبَقٍ فِيهِ تِينٌ فَأَطَلَّ، وَقَالَ لأَصْحَابِهِ:
{ كُلُوا، فَلْو قُلْتُ أَنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ بِلا عُجْمٍ، لَقُلْتُ هَذَا التِّينُ }[5]
ففاكهة الجنة ستكون بهذه الكيفية، وأين تذهب الفضلات؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟، قَالَ: جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ }[6]
الفضلات ستخرج كعرق رائحته مثل رائحة المسك.
حال أهل الجنة
وعندما ننظر ملياً نجد أن هذا الأمر كان مع رسول الله في الدنيا، فكان في الدنيا كثير العرق وله رائحة كرائحة المسك، وعندما يسلم على أحد يشموا منه رائحة المسك لمدة أيام متتالية.
وكان يقيل عند السيدة أم سليم أم سيدنا أنس بن مالك، وكانت من كبريات الصالحات، وفي ذات يوم من الأيام استيقظ فوجدها قد أحضرت مناديل وتجفف بهم العرق وتعصرهم في زجاجة، فقال:
{ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟، قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ، نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ }[7]
وكن نساء الأنصار يطلبن عرقه، ويقلن: نُصلح به طيبنا، لأنه أطيب الطيب، يعني كما يقولون كمادة الإثير وهي المادة التي تُصلح العطر، فكانت رائحة عرقه كرائحة المسك.
وكان صلى الله عليه وسلَّم إذا أراد قضاء حاجته وهو سائر في الغزوات يبتعد، وكان المتولي وضوءه وحمل نعله وعصاه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فيقول:
{ كَنا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم فِي سَفَرٍ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَائِطِ أَبْعَدَ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَبَصُرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم بِشَجَرَتَيْنِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، اذْهَبْ إِلَى هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقُلْ لَهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم يَأْمُرُكُمَا أَنْ تَجْتَمِعَا لَهُ لِيَتَوَارَى بِكُمَا، فَمَشَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم حَاجَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَتَا إِلَى مَكَانِهِمَا }[8]
وهذا الأمر تكرر مرات كثيرة وليست مرة واحدة، وكانوا بعد أن يقضي رسول الله حاجته يذهبون للمكان الذي قضى فيه حاجته فلا يجدون شيئاً، فسألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ يَا عَائِشَةُ، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ نَبَتَتْ أَجْسَادُنَا عَلَى أَرْوَاحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَا خَرَجَ مِنَّا شَيْءٌ ابْتَلَعَتْهُ الأَرْض }[9]
فكان صلوات ربي وتسليماته عليه وهو في الدنيا بمواصفات أهل الجنة.
فالظالمين أنفسهم أجمعين سيكونون في كرب شديد وفي عرق شديد كما وصفهم صلى الله عليه وسلم:
{ تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ }[10]
من شدة حرارة الأرض أرض الموقف، والكل يتمنى أن يخرج من هذا المكان، وتصدر من جهنم مناورات كل حين: " إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ " (32المرسلات) وترسل دخان يزكم الأنوف.
فأين نكون نحن؟ إما قدام العرش، أو تحت ظل العرش، والأعيان منا يخرجون من القبور إلى القصور، ويجلسون في شرفاتهم يشاهدون: " عَلَى الارَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ " (23-24المطففين) والخدم يأتون لهم وهم جالسون في الشرفات: " يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " (25-26المطففين) أما أهل اليمين فإنهم يحاسبون حساباً يسيراً من الله عز وجل.
حوض الكوثر
فأهل الموقف في يوم مقداره خمسين ألف سنة من أين يشربون؟ ليس هناك إلا حوض الكوثر الذي ينزل فيه قطرات من نهر الكوثر في الجنة، وعليه آنية كما قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ }[11]
هل يستطيع أحد أن يعد نجوم السماء؟ لا أحد، فكل واحد منا له كوز خاص به، والكوز يعني كوب له أذن، ومكتوب عليه اسمه.
فمنهم الأوائل الذين سيسقيهم سيدنا رسول الله بنفسه، ولذلك الصالحون كانوا يدعون الله ونحن معهم نقول: (واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً).
قد يتكلم واحد بعقله ويقول: هل يده هذه تكفي كل هؤلاء الناس؟ " لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " (101المائدة) هذا شيء غيبي، فيد واحدة ممكن أن تسقي الكون كله، كيف؟ هذا أمر فوق العقل وفوق الخيال.
ومنهم من يسقيه الصِدِّيق، ومنهم من يسقيه الفاروق، ومنهم من يسقيه وليّ من أولياء الله، ومنهم من يسقيه عظماء الملائكة، ومنهم من يسقيه أحد الملائكة، وكل واحد حسب مقامه: " وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ " (164الصافات).
حوض الكوثر يكون في الموقف، ونهر الكوثر يكون في الجنة، فهناك فرق بين الحوض وبين النهر.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان الله عز وجل يضرب له الأمثال على الفور، حتى كل شيء يؤيد بتأييد من الله، وهذا الحال مع الورثة، يتكلم في كلام فيجعل مثلاً يراه الأنام ليعرف الناس أنه مؤيد من الملك العلام سبحانه وتعالى.
الشرب من الكوثر في الدنيا
كيف نشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا؟ السيدة أم أيمن حاضنة النبي، كانت مع أمه السيدة آمنة تربيه وتشرف عليه، وكانت هي التي حملته مع أمه عندما ذهبت السيدة آمنة لتزور قبر أبيه عبد الله في المدينة، وماتت في عودتها في مكان اسمه (الأبواء) موجود قريب من المدينة، فحملته السيدة أم أيمن وأكملت الرحلة حتى أوصلته إلى جده عبد المطلب، وهذه التي قال فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال لأصحابه يوماً:
{ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَتَزَوَّجْ أُمَّ أَيْمَنَ }[12]
هي من أهل الجنة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة، هاجرت هي وحدها، وهذه لا يفعلها أحد إلا إذا كان توكله على الله شديد، كيف تهاجر امرأة في هذه الصحراء وحدها؟! وأثناء مسيرها وجدت جماعة من اليهود مسافرين، فمشت معهم لتأتنس بهم، فلما علم كبيرهم أنها مسلمة أحكم غطاء الأسقية التي كانت معهم، ونبَّه على من معه تنبيهاً شديداً وحذرهم: إياكم أن تسقوها شربة ماء، فقلوب اليهود أشد قسوة من الحجارة كما وصفهم ربنا، ولذلك تراهم في الحروب ليس عندهم رحمة أو هوادة أو لين للشيوخ أو للنساء أو للأطفال أو غيره، بل يتلذذون ويتشفُّون بما يفعلوه.
فتقول: بلغ بي العطش أني كدتُ لا أسمع، وبعدها بلغ بي العطش إني كدتُ لا أرى، وإذا بدلو يتدلى بحبل من السماء حتى وصل إليَّ فأخذته وشربتُ منه، وأردتُ أن أستزيد، فارتفع الحبل بالدلو لأنها ظمآنة والحر شديد فلو شربت سيتفتت الكبد على الفور، وهذه الحكمة الصحية لخير البرية:
{ إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا، وَلا يَعُبُّ عَبًّا فَإِنَّ الْكِبَادَ مِنَ الْعَبِّ }[13]
لماذا انتشر مرض الكبد في زماننا؟ لهذا السبب، فيأتي الرجل من الخارج وكله عرق فيُخرج زجاجة مياه من الثلاجة ويشرب، والكبد مطبخ الجسم، فهو الذي يطبخ الطعام ويحوله إلى دم صالح لكل أعضاء الإنسان، وكل عضو له طعام معين، العين لها طعام، والأُذن لها طعام والأنف له طعام، والشعر له طعام، وكله من الدم، من الذي ينتج هذا كله ويحوله؟ الكبد، ولذلك إلى وقتنا هذا لم ينته العلماء من كشف وظائف الكبد، فيحتاج من الإنسان أن يمص الماء، ويشرب على دفعات، وسيدنا رسول الله كان يشرب على ثلاث، وفي كل مرة يقول في البداية: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد أن ينته يقول:
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ملحًا أُجَاجًا بذنوبنا }[14]
ونزل الحبل لها مرة ثانية فشربت وأيضاً ارتفع، وفي المرة الثالثة شربت وارتوت وبقي ماء في الدلو فصبته على جسمها من حرارة الجو، فرآها اليهودي وكاد يُجنُّ، فذهب لمن عنده في ثورة كهياج الثور، وقال لهم: من الذي سقى هذه المسلمة؟ قالوا: لا أحد وانظر إلى آنيتك، فوجد الآنية كما هي برباطها الذي ربطه، فذهب إليها وسألها: كيف شربتِ؟ فحكت له، وكانت السبب في إسلامه وإسلام من معه:
وإذا العناية لاحظتك عيونها | نم فالمخاوف كلهن أمان |
أمان لا تخاف أبداً: " وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا " (2الطلاق) فهو يُضيق المخارج، ورب المخارج يفتح المخارج للإنسان.
فتقول وهذا هو الشاهد: وكنت بعدها لا أشعر بظمأ ولا عطش أبداً حتى كنت أتحرَّى اليوم الصائف شديد الحرارة وأصوم لعلي أجد الظمأ فلا أجده، وأتحرى حر الظهيرة اللهيب وأطوف بالبيت لعلي أجد الظمأ فلا أجده أيضاً.
فبذلك تكون قد شربت من الكوثر وهي في الدنيا، هناك من يشرب من الكوثر يقظة، وهناك من يشرب مناماً، وغير ذلك إلى ما لا نهاية إن شاء الله، وكل هذا من نهر الكوثر، ومنه يُشتقُّ حوض الكوثر.
الكوثر المشهود
ولكننا نقول هنا: (وأعطاه الكوثر المشهود) ما هذا الكوثر المشهود؟ الكون كله منفعل بتجليات أسماء الله، ولكن لا يشهدها إلا قلب مُلئ بنور الله، ولم يعد فيه غير مولاه تبارك وتعالى، ماذا يشاهد؟ " اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ " (35النور).
يعني هذا الإنسان بماذا ينظر؟ بتجلي اسم الله البصير، فلو أنزل البصير سحائبه الكثيفة على العين ضاع البصر في الحال، ويسمع بسر اسم الله السميع، ويتكلم باسم الله المتكلم، وإذا تجلى عليه الحي احتيا، وإذا تجلى عليه المميت مات في الحال، فكل هذه تجليات الأسماء والصفات الإلهية، ولذلك الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه يقول: (يا أيها الإنسان تنظر بشحمة، وتنطق بلحمة، وتسمع بعظمة) هل هذه العظمة هي التي تسمع؟ وهل هذه الشحمة هي التي تنظر؟ وهل هذه اللحمة هي التي تنطق؟ لو كان هكذا فلا ينقص شيء من هؤلاء عند وفاة الإنسان، لكنه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يسمع ولا يشاهد لأنها تجليات حضرة الرحمن سبحانه وتعالى.
ولذلك العارفين عندما يبدأون في المكاشفات الإلهية يكون أول المكاشفات رؤية تجليات الأسماء والصفات فيهم وفي كل من حولهم من المخلوقات، فيشاهدوا الحقائق التي فيها، يقول فيها الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وإن نظرت عيني إلى أي كائن | تغيب المباني والمعاني سواطع |