Advanced search

دروس Related

  • صلاة التراويح أهميتها وفوائدها

    More
  • المفطرات المعنوية الرفث و الفسوق

    More
  • المفطرات المعنوية-الغيبة والنميمة

    More
View all

New الدروس

  • صلاة التراويح أهميتها وفوائدها

    More
  • المفطرات المعنوية الرفث و الفسوق

    More
  • المفطرات المعنوية-الغيبة والنميمة

    More
اعرض الكل

Most visited

  • آداب العزاء للسيدات

    More
  • أحداث آخر الزمان والقضاء علي اليهود

    More
  • رسالة التمام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)ـ

    More
View all

حب الدنيا – أمراض السالكين القلبية

Visits number:81 Downloads number:2
Download video Watch Download audio Listen
حب الدنيا – أمراض السالكين القلبية
Print Friendly, PDF & Email
+A -A



المرض الخامس: حب الدنيا

حب الدنيا هو من أكبر الأمراض التي يتعرض لها أي سالك، وتظهر أعراضها عليه جلية وتعرضه للمهالك، ولكن لا بد لنا من تجلية هذا الأمر بما جلَّاه الله، وبما بيَّنه لنا سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

فكلمة الدنيا من الدناءة، ولذلك كان الصالحون يقولون دوماً: (الدنيا الدنية) والدنيا الدنية عدوة لله، وعدوة لأولياء الله، وعدوة كذلك لأعداء الله، ولكن الدنيا كما فهمها العارفون تنقسم إلى قسمين، هناك الدنيا التي ينعون عليها ولا يحبون السلوك فيها ويتهمونها دوماً بإبعادهم عن القرب من حضرة الله، وهذه تسمى الدنيا المذمومة، وهناك الدنيا المحمودة وهي التي يعيش فيها العارفون والصالحون والسالكون الصادقون.

الدنيا المذمومة

فالدنيا المذمومة هي التي فيها حظ عاجل للنفس، وليس فيها حظ للآخرة، ويُعبَّر عنها بالهوى وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " (40-41النازعات).

والدنيا أمرٌ معنوي وليس أمرٌ محسوس يظهر في أمور نراها حولنا أو بين أيدينا أو فينا، فالهوى جمعه الله سبحانه وتعالى في خمسة في قوله تبارك وتعالى وهو يُعلمنا حقيقة الدنيا: " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الامْوَالِ وَالاوْلادِ " (20الحديد) واعلموا أي تعلموا.

فإذا كان الإنسان مشغول باللعب سيكون في هذه الآنات غافلاً عن مولاه وعن ذكر الله وعن التقرب إلى الله، فيكون في الدنيا وفي الدنو، ويكون كذلك في سهو ونسيان لما يحبه الله ويرضاه.

وإذا انشغل الإنسان باللهو والملهيات من الأغاني والمسلسلات وما شابهها، يكون أيضاً غافلاً عن ذكر مولاه، ويكون في الدنيا المذمومة التي ذمها الله وحذَّرنا منها رسول الله.

وإذا كان الإنسان مشغول بالكلية بالزينة سواءٌ الزينة في نفسه في الثياب أو غيرها، أو الزينة في أثاثه ورياشه في بيته، أو الزينة في منصب يتعالى ويتباهي به، أو الزينة في سيارة أو مركب يركبه يتفاخر به، فهي دنيا مذمومة لأنها تباعد بينه وبين رضوان الله تبارك وتعالى.

وإذا كان الإنسان مشغول كذلك بالتكاثر في الأموال ليظهر في الأرض بين الناس بغناه، ويتفاخر عليهم بما ربه أعطاه، أو بأولاده يتباهى بهم بين خلق الله لأمور دنيوية محضة، كل ذلك هو الدنيا التي تشغل المؤمن عن الله.

وجعل الله عز وجل مجامع الهوى سبعة في قوله تبارك وتعالى: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ " (14آل عمران) زُيِّن للناس وليس للمؤمنين.

فجعل الدنيا هنا زائدة عما ذكره في الآية الأولى، لأنه زاد فيها عن الشهوات وقسمها تبارك وتعالى كما رأينا.

وجمع الله تبارك وتعالى الدنيا كلها في القرآن في آية واحدة في أمرين، يقول فيهما تبارك وتعالى: " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ " (32الأنعام) اختصرها في اللعب واللهو.

الدنيا المحمودة

فإذا نظرنا إلى الأمور التي ذكرها الله تبارك وتعالى، وذكر أن الإنسان إذا كان فيها كان في الدنيا، لا نجد بينها التفكر ولا ذكر الله ولا التنافس في الطاعات ولا الصلاة ولا الصيام ولا مجالس القرآن ولا مجالس الذكر ولا مجالس الصلح وغيرها من أعمال البر والتقوى.

فكأن الإنسان إذا كان في عمل من هذه الأعمال القويمة فهو في الآخرة وإن كان في الدنيا، لأنه في عمل من الأعمال التي توصله إلى مراضي الله في الآخرة.

ولذلك قال الله تعالى للمؤمنين عندما يكونوا مجتمعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يتعلمون من حضرته ويتفقهون في الدين:" وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ " (153آل عمران) أي حال دعوة الرسول لكم وتعليمه لكم تكونون في الآخرة وليس في الدنيا في هذه الحالة.

وكذلك الإنسان لو وقف بين يدي مولاه في الصلاة يكون في الآخرة، وإن كان يظن من حوله أنه ما زال في دنيا الناس، لأنه منشغلٌ بعمل من أعمال الآخرة، وهذه هي الدنيا المحمودة التي يحمدها الله، والتي يعمل الإنسان فيها عملاً يحبه الله ويرضاه، ويقصد بهذا العمل وجه الله، أو يقصد بهذا العمل الدار الآخرة التي رغَّبنا فيها الله، وهكذا نجد الأمر كما قيل.

فإذا كان قصد الإنسان في أي عمل حظ النفس وشهواتها فهو من الدنيا، وإن كان قصد الإنسان بأي عمل الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته أنه يؤديه في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مُكَاثِرًا بِهَا حَلَالًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ }[1]

القول الجامع

فنستطيع أن نختصر الدنيا المحمودة والمذمومة في هذه الحكمة الجلية، فكل عمل لله ليس من الدنيا، وكذلك ما يكون الإنسان فيه في ضروراته من قوت لا بد له منه، أو من مسكن وملبس لا غنى له عنه هو وأولاده، إن قصد به وجه الله فليس من الدنيا، وإن قصد به الاستكثار منه والفخر والمباهاة والتنعم على خلق الله فهو دنيا دنية، قال في ذلك صلى الله عليه وسلَّم:

{ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ }[2]

ومخيلة أي خيلاء يعني زهو أو فخر، ولذلك نجد كثير من العارفين المتمكنين يمدح الدنيا ولا يذمها كما نسمع من الزاهدين، فهذا الإمام أبو العزئم رضي الله عنه يقول:

آه يا دار الفنا فيك البقا

فيك رضا الله فوزٌ باللقا

فيك منهاج الحبيب المصطفى

سُلَّمٌ للوصل سهل المرتقى

كيف يرتقي الأولياء والصالحين؟ بالأعمال التي يعملونها لله في الدنيا، وكيف يقرب الله تبارك وتعالى المقربين؟ بزهدهم فيما حذَره الله تبارك وتعالى من الشهوات في الدنيا، وإقبالهم على الطاعات والنوافل والقربات طلباً لمرضاة الله، وعملاً بقول الله في حديثه القدسي:

{ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ }[3]

الزهد في الدنيا

فإذا استمعنا إلى ذم الدنيا من الزُهَّاد والعُبَّاد فهؤلاء سمعوا الأحاديث والآيات التي تذم الدنيا من سيدنا رسول الله وتأثروا بها وعملوا بها حتى يستكثروا من الطاعات والقربات ويكونوا من أهل الآخرة أو من أهل المقبلين على وجه الله تبارك وتعالى.

ولما كان الإنسان يتأثر دوماً بما تراه عينه، وما تشمه أنفه، وما تسمعه أذنه، وما تمسه حواسه، أي يتأثر بحواسه الظاهرة وما تلمسه وتراه وتسمعه وتشاهده، فإن النبي صلى الله عليه وسلَّم حذَّرنا من الركون إلى ذلك حتى لا نتعرض للمهالك، وأمرنا أن نحفظ أنفسنا من هذه الأشياء، ونُقبل على طاعة الله والتقرب إلى الله متأسين بسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مع أصحابه ليبغض إليهم الدنيا عياناً، ومروا على شاة ميتة، فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا؟ قَالُوا: مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا }[4]

وقال صلى الله عليه وسلم:

{ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ }[5]

وقال صلى الله عليه وسلَّم لمن ينظر إلى من حوله من الكافرين، وكيف أن الله تبارك وتعالى زَيَّن لهم كما قال في القرآن شهوات الدنيا وحظوظها:

{ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ }[6]

سجن المؤمن لأنه يمنع جوارحه عن الخوض في الشهوات التي حرَّمها الله وبغَّضها إلينا رسول الله، وجنة الكافر لأنه لا ينظر إلى الآخرة ولا يحرص عليها، ويظن أنه ليس له حياة إلا الحياة الدنيا، ويقولون كما قال الله في شأنهم: " مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ " (24الجاثية).

وقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ }[7]

ولما علم صلى الله عليه وسلَّم أن هناك قومٌ يظنون أنهم يستطيعون أن يجمعوا بين حب الدنيا وحب الآخرة، والعَبُّ من شهوات الدنيا وأن لا يُحرموا من الآخرة، قال لهم صلى الله عليه وسلَّم مُحذراً:

{ مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى }[8]

حب الدنيا ومشاكل الإنسان

ووجَّه صلى الله عليه وسلَّم نظر أصحابه والصادقين من المؤمنين من بعده إلى يوم الدين إلى سبب المشاكل التي تحدث بين الناس أجمعين، والمشاكل لها أسباب متعددة، لكن هناك سبب يجمع كل هذه الأسباب فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ }[9]

فأي خطيئة أو ذنب يرتكبه الإنسان نحو نفسه أو نحو غيره من بني الإنسان سببه طمعه وحبه للشهوات وللدنيا، وميله عن العمل بما أمرنا به الرحمن وما جاء في القرآن وما كان عليه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.

ولما كان ما يهم الناس في الدنيا وما يسهلها هو المال، وكان جُلَّ هَمّ الناس الذين يحبون الدنيا هو جمع المال من حرام أو من حلال، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ }[10]

ما أكلته فإنه يفنى، ولذلك قيل: من كان همُّه بطنه فقيمته ما يخرج منه، ومن كان همُّه لبسه فإنه لا بد يتعرض للبلى، أو يبلى الإنسان ويتركه لغيره.

أما الذي يبقى له عند الله هو ما يتصدق به، ولذا ذبح نبينا صلى الله عليه وسلَّم شاة، وأمر عائشة رضي الله عنها أن توزعها على فلان وفلان وفلان، وعدَّ لهم نفراً من فقراء المسلمين، ثم خرج وتركها، فلما رجع صلى الله عليه وسلَّم وهو نعم المربي والمعلم سألها:

{ مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا }[11]

أي أن ما تتصدق به يكون كما قال الله: " مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ " (96النحل).

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الدنيا وصفاً جامعاً، قال فيه:

{ الدُّنيا دارُ مَن لا دارَ لَهُ، ومالُ مَن لا مالَ لَهُ، ولَها يجمعُ مَن لا عقلَ لَهُ، وعليها يُعادي مَن لا عِلم لَهُ، وعليها يَحسُدُ مَن لا فِقهَ لَهُ، ولها يسعَى مَن لا يقينَ لَهُ }[12]

فنسأل الله أن يجعلنا من المستبصرين في هذا الحديث الجامع لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.

سلفنا الصالح والدنيا

مشى سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين والصالحين على هذا النهج المبارك من الزهد في الدنيا، وعملوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:

{ ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ عز وجل، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ }[13]

فزهدوا في شهوات الدنيا وأهوائها وسخَّروها وجعلوها كلها للأعمال الصالحة والنوافل والقربات التي يطلبونها ويجدونها عند الله تبارك وتعالى.

وانظر إلى الإمام علي رضي الله عنه وهو من أئمة أهل الورع والزهد حيث يقول: (من جُمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً، من عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتَّبعه، وعرف الباطل فاتَّقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها) فنِعْمَ ما قال مدينة العلم رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه.

ووصف ما يتمتع المرء به في دنياه، وردَّه إلى أصله الذي جاء منه ليزهدنا في هذه الشهوات، فقال: (إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير - يقصد الحرير الطبيعي - وهو نسج دودة، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يُقتل الرجال، وأشرف المنكوحات المرأة وهي مَبال في مَبال، وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها - يقصد وجهها -ويُراد أقبح شيء منها، وأشرف المشمومات المسك وهو دم).

والمنجى من ذلك ما قاله أبو حازم رضي الله عنه في نصيحة لرجل سأله وقال له: أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار، فقال رضي الله عنه: (انظر ما أتاكه الله منها فلا تأخذه إلا من حِلِّه، ولا تضعه إلا في حقه، ولا يضرك حب الدنيا).

ونِعمَت النصيحة، فلو كل إنسان منا وقف عند هذه النصيحة فقط لنجا من الدنيا وأهوائها وفتنها، فلا يأخذ أي شيء منها إلا من حلال أحلَّه شرع الله، ولا يدع أي شيء ملكته يداه إلا في حق أوجبه عليه الله، وهنا يكون عمله كله لله لأنه يعمل كل أموره لله تبارك وتعالى.

وزار رابعة العدوية بعض أصحابها فأخذوا يذكرون الدنيا ويذمونها، فقالت رضي الله عنها: (اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره).

ولذلك نجد دائماً وأبداً من يكثر من ذكر الدنيا وذمها الزهاد والعُبَّاد والوعاظ، أما العارفون فعلموا أن الدنيا هي الباب الذي يتقربون فيه إلى الله، والذي ينالون فيه منح الله وعطاءات الله، والذي ينالون فيه الدرجات العُلى في القرب من حبيب الله ومصطفاه، فانشغلوا بذلك ونسوا ما خلاف ذلك، فالدنيا كما قال صلى الله عليه وسلَّم فيها:

{ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا }[14]

حكمة المؤمن في حياته الدنيا

ونخرج من هذا الحديث بحكمة عظيمة: أنه ليس من المهم أن تعتزل الدنيا ومسراتها، وأن تهجر نعيمها وأفراحها، ولكن المهم أن لا تجعل للدنيا سلطاناً على قلبك، فيميل معها كلما مالت، فالمؤمن الحق هو الذي يعيش وأقدامه في الدنيا، ويكافح فيها ويناضل فيها، بل ويغرس راياته في حدقة الكون إن استطاع، ولكن عيونه تتطلع إلى طريق السلف الصالح، وإلى نهج الأنبياء والمخلصين، وإلى قيم الشرع الإلهي ينصرها في وجه شريعة الحياة والغاب والمصلحة الشخصية.

ولذلك سُئل الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه عن الزهد في الدنيا وما مكانته في معرفة الله والقرب من الله؟ وهل التنعم بنعيم الدنيا يمنع من معرفة الله؟ فقال لأبي العباس المرسي رضي الله عنه: (يا أبا العباس اعرف الله وكن كيف شئت).

ولذلك منهجه ومنهج السادة الشاذلية أجمعين لا يدعون إلى التقلل من الدنيا والزهد فيها، بل يحولونها إلى أعمال الآخرة وإلى شكر الله عليها، فينالون بها منه النعم الفاخرة.

ويقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (كُل أفخر الطعام، واشرب أشهى الشراب، والبس أجمل الملابس، وتزوج أجمل النساء، وافرش أجمل الفراش، على أن يكون ذلك من حلال، وعلى أن تشكر الله تبارك وتعالى عليه، وعلى أن لا يشغلك عن الواجبات والفرائض التي فرضها الله تبارك وتعالى عليك).

فهنيئاً لمن استطاع أن يجعل الدنيا في يديه تخدمه ولم يمكنها من قلبه لتستخدمه.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يُسخِّر لنا الدنيا، وأن يُسخِّرنا أجمعين لحضرته، وأن لا يشغلنا بنعمها ومتعها عن شكره وطاعته وعبادته طرفة عين ولا أقل.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

**************************

الجميزة – السنطة -الغربية الخميس 20 من محرم 1444هـ 18/8/2022م 1

[1] مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه

[2] مسند أحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[3] صحيح البخاري وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[4] سنن الترمذي ومسند أحمد

[5] سنن الترمذي والطبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه

[6] صحيح مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[7] سنن الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[8] مسند أحمد والحاكم في المستدرك عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

[9] الزهد لابن أبي الدنيا

[10] صحيح مسلم والترمذي

[11] جامع الترمذي ومسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها

[12] مسند أحمد والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها

[13] سنن ابن ماجة والحاكم في المستدرك عن سهل بن سعد رضي الله عنه

[14] مسند أحمد والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما

اعلان في الاسفل

All rights reserved to Sheikh Fawzi Mohammed Abu Zeid


Up