Visits number:81
Downloads number:2

المرض الخامس: حب الدنيا
حب الدنيا هو من أكبر الأمراض التي يتعرض لها أي سالك، وتظهر أعراضها عليه جلية وتعرضه للمهالك، ولكن لا بد لنا من تجلية هذا الأمر بما جلَّاه الله، وبما بيَّنه لنا سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فكلمة الدنيا من الدناءة، ولذلك كان الصالحون يقولون دوماً: (الدنيا الدنية) والدنيا الدنية عدوة لله، وعدوة لأولياء الله، وعدوة كذلك لأعداء الله، ولكن الدنيا كما فهمها العارفون تنقسم إلى قسمين، هناك الدنيا التي ينعون عليها ولا يحبون السلوك فيها ويتهمونها دوماً بإبعادهم عن القرب من حضرة الله، وهذه تسمى الدنيا المذمومة، وهناك الدنيا المحمودة وهي التي يعيش فيها العارفون والصالحون والسالكون الصادقون.
الدنيا المذمومة
فالدنيا المذمومة هي التي فيها حظ عاجل للنفس، وليس فيها حظ للآخرة، ويُعبَّر عنها بالهوى وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " (40-41النازعات).
والدنيا أمرٌ معنوي وليس أمرٌ محسوس يظهر في أمور نراها حولنا أو بين أيدينا أو فينا، فالهوى جمعه الله سبحانه وتعالى في خمسة في قوله تبارك وتعالى وهو يُعلمنا حقيقة الدنيا: " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الامْوَالِ وَالاوْلادِ " (20الحديد) واعلموا أي تعلموا.
فإذا كان الإنسان مشغول باللعب سيكون في هذه الآنات غافلاً عن مولاه وعن ذكر الله وعن التقرب إلى الله، فيكون في الدنيا وفي الدنو، ويكون كذلك في سهو ونسيان لما يحبه الله ويرضاه.
وإذا انشغل الإنسان باللهو والملهيات من الأغاني والمسلسلات وما شابهها، يكون أيضاً غافلاً عن ذكر مولاه، ويكون في الدنيا المذمومة التي ذمها الله وحذَّرنا منها رسول الله.
وإذا كان الإنسان مشغول بالكلية بالزينة سواءٌ الزينة في نفسه في الثياب أو غيرها، أو الزينة في أثاثه ورياشه في بيته، أو الزينة في منصب يتعالى ويتباهي به، أو الزينة في سيارة أو مركب يركبه يتفاخر به، فهي دنيا مذمومة لأنها تباعد بينه وبين رضوان الله تبارك وتعالى.
وإذا كان الإنسان مشغول كذلك بالتكاثر في الأموال ليظهر في الأرض بين الناس بغناه، ويتفاخر عليهم بما ربه أعطاه، أو بأولاده يتباهى بهم بين خلق الله لأمور دنيوية محضة، كل ذلك هو الدنيا التي تشغل المؤمن عن الله.
وجعل الله عز وجل مجامع الهوى سبعة في قوله تبارك وتعالى: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ " (14آل عمران) زُيِّن للناس وليس للمؤمنين.
فجعل الدنيا هنا زائدة عما ذكره في الآية الأولى، لأنه زاد فيها عن الشهوات وقسمها تبارك وتعالى كما رأينا.
وجمع الله تبارك وتعالى الدنيا كلها في القرآن في آية واحدة في أمرين، يقول فيهما تبارك وتعالى: " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ " (32الأنعام) اختصرها في اللعب واللهو.
الدنيا المحمودة
فإذا نظرنا إلى الأمور التي ذكرها الله تبارك وتعالى، وذكر أن الإنسان إذا كان فيها كان في الدنيا، لا نجد بينها التفكر ولا ذكر الله ولا التنافس في الطاعات ولا الصلاة ولا الصيام ولا مجالس القرآن ولا مجالس الذكر ولا مجالس الصلح وغيرها من أعمال البر والتقوى.
فكأن الإنسان إذا كان في عمل من هذه الأعمال القويمة فهو في الآخرة وإن كان في الدنيا، لأنه في عمل من الأعمال التي توصله إلى مراضي الله في الآخرة.
ولذلك قال الله تعالى للمؤمنين عندما يكونوا مجتمعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يتعلمون من حضرته ويتفقهون في الدين:" وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ " (153آل عمران) أي حال دعوة الرسول لكم وتعليمه لكم تكونون في الآخرة وليس في الدنيا في هذه الحالة.
وكذلك الإنسان لو وقف بين يدي مولاه في الصلاة يكون في الآخرة، وإن كان يظن من حوله أنه ما زال في دنيا الناس، لأنه منشغلٌ بعمل من أعمال الآخرة، وهذه هي الدنيا المحمودة التي يحمدها الله، والتي يعمل الإنسان فيها عملاً يحبه الله ويرضاه، ويقصد بهذا العمل وجه الله، أو يقصد بهذا العمل الدار الآخرة التي رغَّبنا فيها الله، وهكذا نجد الأمر كما قيل.
فإذا كان قصد الإنسان في أي عمل حظ النفس وشهواتها فهو من الدنيا، وإن كان قصد الإنسان بأي عمل الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته أنه يؤديه في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مُكَاثِرًا بِهَا حَلَالًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ }[1]
القول الجامع
فنستطيع أن نختصر الدنيا المحمودة والمذمومة في هذه الحكمة الجلية، فكل عمل لله ليس من الدنيا، وكذلك ما يكون الإنسان فيه في ضروراته من قوت لا بد له منه، أو من مسكن وملبس لا غنى له عنه هو وأولاده، إن قصد به وجه الله فليس من الدنيا، وإن قصد به الاستكثار منه والفخر والمباهاة والتنعم على خلق الله فهو دنيا دنية، قال في ذلك صلى الله عليه وسلَّم:
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ }[2]
ومخيلة أي خيلاء يعني زهو أو فخر، ولذلك نجد كثير من العارفين المتمكنين يمدح الدنيا ولا يذمها كما نسمع من الزاهدين، فهذا الإمام أبو العزئم رضي الله عنه يقول:
آه يا دار الفنا فيك البقا | فيك رضا الله فوزٌ باللقا |
فيك منهاج الحبيب المصطفى | سُلَّمٌ للوصل سهل المرتقى |