Visits number:448
Downloads number:4

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ﴾ ( النساء : 136)
بسم الله الرحمن الرحيم : الحمد لله الذى خصّنا بمحض رحمته ، وأنزلنا منازل تشريفه ، وعزّه وكرامته ، وجعلنا فى الدنيا والآخرة أهلا ً للفوز بجنّته ، وأهلاً للسعادة بحظوة نور حضرته .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد التقىّ النقىّ ، الذى صافاه مولاه وإصطفاه ، وجعل قلبه مَحِلاًّ لنزول كلام الله ، ناهيك وأشرف بهذا المقام .. صلى الله عليه وعلى آله الأعلام ، وصحابته الكرام ، وكل من دعى بدعوته ، وإنتهج سنّته ، وحظى بمعيّته فى دار السلام .. وعلينا معهم أجمعين ..آمين يارب العالمين .... إخوانى وأحبابى بارك الله عزّ وجلّ فيكم أجمعين :
فى القرآن خطابٌ لجميع الخلق ، يقول فيه الله : تارةً : يا أيها الناس .. وتارةً يقول لهم : يا بنى آدم
وهى بلاغات عامة لجميع خلق الله ، وفى القرآن خطابات خاصّة بالمؤمنين يبدأها الله عزّ وجلّ بقوله :
﴿ يا أيّها الذين آمنوا ﴾ ومثل هذه تكون رسالة موجّهة من ملك الملوك إلى عباده المحبوبين ، وهم المؤمنين والخطابات الخاصّة بالمؤمنين ، والآيات التى أنزلها لهم حوالى ثلاثة وثمانين رسالة إلهية موجّهة للمؤمنين للتوجيه والإرشاد وتحفيزاً للهمم وإثارةً للعزائم ، وبيان لفضل الله عزّ جلّ الذى خصّهم به دون غيرهم ، لأنهم المحبوبين بين خلق الله عند حضرة الله جلّ فى عُلاه .
ولذلك فإن المؤمن لا بد وأن ينتبه عندما يسمع نداء الله : ﴿ يا أيّها الذين آمنوا ﴾ وعندما ينادى الله بيا أيّها الذين آمنوا ، هل ينادى بذلك على من هُم فى عصرحضرة النبىّ فقط ؟ .. كلاّ ، هل ينادى على من هم فى عصر الخلفاء الراشدين وكفى ؟ .. أبداً ..
فإنّ النداء لكل مؤمنٍ إلى يوم الدين نصيب من هذه الرسائل التى أرسلها ربّ العالمين .. بل لو تدّبرت الأمر مليّاً لعلمت أنّ هذا الكلام مع ثباته فى الذاكرة والأفهام ، يعطى معنىً لكل مؤمنٍ منذ بعثة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام إلى يوم الزحام .
والمعنى الذى يرسله الله لهذا المؤمن يختلف عن المعنى الذى يرسله إلى مؤمنٍ آخر .. ولكل واحد منهم معنى لأن كل خطاب فيه توجيهٌ لجميع المؤمنين منذ نزول هذا الخطاب إلى يوم العرض والحساب .. ولذلك فإنّ سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وهويُعبّر عن حالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمّ فيقول :
{ كنّا إذا سمعنا قول الله عزّ وجلّ : يا أيّها الذين آمنوا ، أنصتنا وأصغينا وقلنا لبيك اللهم لبيك .. ولبيك تعنى إجابةً لك بعد إجابة .. وذلك لأنه إمّا أن يكون أمراً يأمرنا به ، أو نهىٌ ينهانا عنه }
وغير المؤمنين ليس لهم نصيبٌ فى هذه الآيات .. إلاّ الذين أسلموا واستقاموا على الإسلام ، وأصبحوا مؤمنين للملك العلاّم عزّ وجلّ .. ويقول أن أصحاب رسول الله كانوا يتلذذون بهذا النداء ، ويقولون من نكون .. وماذا نساوى فى ملك الله وملكوت الله بين كائنات الله العظمى ، وخاصةً ملائكة الله الذين أقامهم الله فى طاعته أبد الآبدين .. من نكون حتى ينادى الله علينا ؟ .. ولم يقل الله يا مؤمنين ، ولكنه يُعظمّنا ويُكرّمنا ويكثّرنا ويقول :﴿ يا أيّها الذين آمنوا ﴾.. وهذا الخطاب فى اللغة العربية يسمى خطاب تعظيم .
وعندما نرجع إلى التوراة ، نجد أنّ الله كان يخاطب اليهود دائماً : ( بيا أيها المساكين ) أمّا نحن فبيا أيها الذين آمنوا .. هذا الخطاب عندما كان يسمعه المؤمنون .. مهما كان التكليف الذى الذى يليه : إن كان شاقاً على النفس أو ثقيل فى تنفيذه على الجسم .. إلاّ أنّهم كانوا يقولون :
{ لذّة مافى النداء ، تزيل التعب والعناء } لأن الذى يناديهم هو ربّ العزّة عزّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره .. ولذلك فإنّ نداءات الله للمؤمنين يلزمها تفكّرٍ وتدّبرٍوتمّعُنٍ من المؤمنين ليرُوْا لماذا جاء هذا الخطاب ؟ .. فنقرأه بروية ونتقصّى حقائقه ، ونتوقف عند ما فيه ، لكى نستخلص منه ما نستطيع تنفيذه لنُرضِىَ الخالق البارئ عزّ وجلّ .. ولا نأخذه مجرد كلام يمُرّ على الأسماع وحسب ، وقد قال الله لمن سبقونا :
( عبدى يأتيك خطابٌ من صديقك وأنت فى الطريق تمشى .. فتجلس لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً أفكُنت أهْوَن عليك من بعض أصدقائك ) .. فمن يأتيه رسالة من عند عزيز عليه ماذا يفعل ؟
إذا كان ماشياً يتوقف ويجلس ثمّ يقرأها أكثر من مرّةٍ لكى يرى أحوال صديقه ، وماذا يريد .. وإذا كان يريد منه أى طلبات .. يجهّزها ويرسلها له فى الحال ، لكى يرضيه ..
كذلك يقول الله : ( عبدى يجلس صديقك معك ليحدثك ، فتُقبِلُ عليه بكل وجهك وتصَغَى إليه بكل سمعك وها أنذا متحدّثٌ إليك فى كلامى ، أفكنت عندك أهون عليك من بعض جُلسَائِكَ )
والذى يخاطبنا هو الله ، والحبيب يقول : ( ومن أراد أن يُكلمّ الرحمن بغير ترجُمان .. فليقرأ القرآن )..
وفى رواية أخرى : ( من أراد أن يناجى الله فليقرأ كلامه ) ..
فأنت عندما تقرأ القرآن ، فإنك تتكلمّ مع حضرة الله مباشرة ، ولذلك عندما نسمع : ﴿ يا أيّها الذين آمنوا﴾ يجب أن ننظر إلى ما بعدها .. وعندما نسمع الآية التى قرأها القارئ اليوم نجدها تقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ .. هم الآن قد آمنوا بالفعل ، لكنه سبحانه عاد ثانيةً وقال ..
﴿آَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ﴾ ( النساء : 136) ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى تجديد الإيمان على الدوام ، ولا نكتفى بالإيمان الأول ، وقد قال الحبيب : ( جدّدوا إيمانكم ) .. لماذا أجدد الإيمان ؟ لأنّ المؤمنين كما قال رب العالمين :
﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله ﴾ ( آل عمران :163) فالمؤمنين درجات .. لماذا لا ترضى فى الدنيا بالدرجات الدنيا وتريد الترقيات والعلاوات با ستمرار ؟
كذلك حضرة الله فإنّ عنده ترقيات فى مجال الإيمان ، وعنده علاوات تشجيعيّة ، ومكا فآت سخيّة فى الدنيا قبل الآخرة .. وما جعل المؤمنون يتواكلون ، أنهم ظنّوا أن طاعة رب العالمين لا تؤتى ثمارها إلاّ فى الآخرة .. وهذا ظنٌ خاطئ ، لأن المكافآت نازلةٌ با ستمرار من ملك الملوك إلى عباده المؤمنين .. فلولا عناية الله بنا جماعة المؤمنين ، ما إستطعنا أن نحيا فى هذه الحياة الدنيا طرفة عين ولا أقلّ ... لذلك من يجدد الإيمان يرفعه الله عزّ وجلّ درجةً .. هذه الدرجة عبارة عن عدّة مكافآت :
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ .. هذه واحدةٌ .. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُون بِهِ .. وهذه الثانية .. وَيَغْفِرْ لَكُمْ وهذه الثالثة .. وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( الحديد : 28) وهذا كلهّ لمن أراد أن يجدد الإيمان ، وذلك بزيادة الإيمان ، وزيادة الخشوع عندما يتوّجه إلى حضرة الرحمن ، وزيادة الأعمال التى أمر بها النبىّ العدنان ، فلا يؤديها كما نرى معظم المسلمين ، كتأدية واجب .
فالصلاة على سبيل المثال .. لماذا فرضها علينا حضرة الله ؟ .. لكى نناجى فيها حضرة الله ، ومعنى ذلك أن الذى يناجى الله سيتكلمّ ويسمع ردّ الكلام .. فكيف يسمع إلاّ إذا إستيقظ القلب ، وقوى نوره وزال صدأه ، وإتصل بالواحد الأحد الفرد الصمد عزّ وجلّ .
إذن يجب أُن اُرّقّى نفسى فى الصلاة إلى أن أصل إلى درجة : عندما أقول الحمد لله ربّ العالمين أسمعه سبحانه وهو يقول للملائكة : حمدنى عبدى .. وعندما أقول الرحمن الرحيم ، يقول أثنى علىّ عبدى ، مالك يوم الدين ، يقول مجدّنى عبدى ، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، يقول هذا لعبدى ولعبدى ما سأل .. وبذلك تحدث المناجاة بين العبد وبين مولاه ، والذى لم يصل إلى هذه المناجاة فى الصلاة ، فكيف يطمع أن يكون من الذين سيكلمهم الله يوم لقاء الله ؟ إذ لا بدّ أن يجهّز نفسه هنا ثم يأتى عند الطعام والشراب فيُتقنه ويحسّنه ، وإذا تُحّسنُه زوجته .. فلها الويل والثبور وعظائم الأمور ..
كل ذلك من أجل المعدة والأجسام وعند لقاء الله تجده متباطئ ملول ، وإذا قيل له هيّا نصلىّ يقول إنتظر حتى يُقام للصلاة ، وعندما ينتهى من الصلاة يخرج من المسجد مسرعاّ.. فهل تجرى هرباً من لقاء الله ؟
إذن فعلى الإنسان أنّ يجاهد إلى أن يتذوق حلاوة الإيمان .. فإنه لن يشبع من طاعة الرحمن عزّ وجلّ ولو أمّدّ الله فى عمره إلى يوم الدين ما شبع من طاعة رب العالمين عزّ وجلّ .
والجهاد يكون فى صقل القلوب وتجلية القلب وتنوير القلب .. بعدها عندما يؤدى الإنسان الصلاة ، ويؤدى الصيام ويؤدى الحج وكل العبادات يؤديها ومعه وفى قلبه الخشوع والخضوع والحضور .. وقبل ذلك الإخلاص لله عزّ وجلّ فى كل عملٍ ، وإذا جهّز الإنسان نفسه بالتجهيز الذى أشارعلينا به فى الصلاة بالوضوء الذى قال فيه فى الحديث القدسىّ :
( طوبى لمن تطهّر فى بيته ثمّ زارنى فى بيتى ، وعلى المَزُور أن يكرم زائره ) فنحن نتوضأ فى بيوتنا ثم نذهب للصلاة فى المسجد ، فأين هذا الإكرام ؟ .. هل الإكرام فى المسجد وهو أن يقدّم لنا تحيّة نشربها أو نأكلها ؟ .. كلاّ ، وإنّما ينّزل علينا السكينة : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ .. وماذا تفعل السكينة ؟ .. لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾( الفتح : 4) .
إذن ما يزيد الإيمان ويربّيه هى السكينة التى تنزل من عند الله على قلوب المؤمنين ، وهذه السكينة غير موجودة فى الصيدليات ولا فى المحلاّت ، ولا يستطيع أحدٌ إعطائها للإنسان ، إلاّ الرحمن عزّ وجلّ فينزّلها فى قلب الإنسان إذا أحسن الوضوء .. فكيف يحسن الإنسان الوضوء ؟
كما يتوضأ ويغسل أعضاءه الظاهرة عليه مع ذلك أن يغسل قلبه من الصفات التى لا يحبها الله عزّ وجلّ من العبيد ، فإذا كنت داخلاً على الله ، فما صفة هذا القلب الذى يريده الله ؟
﴿ إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾( الفرقان : 89) تتأكد جيداً أنك داخل على الله بقلبٍ سليم ، ليس فيه غشٌ ولا غلٌ ولا حقدٌ ولا حسدٌ ولا بغضٌ لأحد من المؤمنين ، وكذلك ليس فيه أثرة ولا أنانيّة ، وليس فيه حُبّ ذات ، ولا إعجابٌ بالنفس ، وليس فيه رغبة فى التفاخر والتكاثر، وإنّما كل ما يحويه القلب الرغبة فى رضاء الله ن وطلباً لمرضاته جَلّ فى عُلاهُ .
إذن فلا بد من غسل القلب ، وعندما يغسل الإنسان قلبه .. وهذا هو المعنى الإشارى فى الحديث : ( طوبى لمن تطهر فى بيته ) .. والبيت هنا إشارة إلى القلب ، وهو التطهر من كل ما ذكرناه ، وغيره من الصفات الذميمة ، فإذا طهّر بيته وغسل الأعضاء بالماء ، وإذا لم يجد الماء يتيمم بالتراب .. وهنا قد يسأل سائل ، هل ينظّف التراب الأعضاء ؟
قال العارفون : أنه يرُدّك إلى الماء لكى لا ترى فى نفسك أنّك قوىّ او فتىّ أو غنىّ أو خلافه .. عليك ان تخلع هذه الصفات ، لأنك داخل على رفيع الدرجات عزّ وجلّ ، فهل يصّح ان تدخل على الغنىّ وانت تشعر أنك غنىّ ؟ .. فماذا تريد منه إذن ؟ .. هل تدخل على العليم وأنت تشعر أنك عالم ؟
إذن فلا بدّ وأن يدخل الإنسان على الله وقد تجرّد من كل الأوصاف ، ويرى أن كل ما فيه فضل من الله جَلّ فى عُلاه .. ولذلك فإن لم يجد الأصل الأول فعليه أن يرجع إلى الأصل الثانى :
﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ( الروم : 20) فيتذكرّ عندما يمسح بالتراب أن أصله تراب.. هل هذا التراب يسمع او يبصر أو يتكلمّ ؟ .. لا إذن من يأتى بالسمع والبصر والكلام ؟ .. إنه إنعام من حضرة المنعم على هذا التراب :
أكنت سميعاً أو بصيراً وعالماً ولكننى أنعمت بالمـــدرار
تدبّر جمـــــال الله فيك تيقظن فمن ينسه يلقى سعير النار
فيعرف الإنسان بذلك أن كل ما زاد عن الطين فهو جمال رب العالمين عزّوجلّ .. فأنت مجرّد طينة ، وهذه الطينة صارت زينة .. فمن الذى زيّنها بهذه الزينة ؟ .. الله عزّ وجلّ ، لأنه عندما يأخذ هذه الزينة فإنّ الطينة تعود كما كانت ، لا تسمع ولا تبصرولا تتكلم ، حتى لو تركناه بعد الوفاة فى الحَرّ ، لأصبحت جيفة يتحاشاها الكل ، وذلك حتى نعرف نعرف أن حفظ حياة الإنسان باسم الله عزّوجلّ الحىّ .. وعندما يتجّهز الإنسان هذه التجهيزات ، وينتبه لإحسان الوضوء الذى الذى له قصة مع السيدة نفيسة رَضِى اللهُ عَنها ، فعند إحتضار الإمام الشافعىّ رَضِى اللهُ عَنه ، أوصى بأن تصلى عليه السيدة نفيسة ، وذلك لأنها كانت من الصالحات القانتات ، وعندما علمت بذلك قالت :
{ لقد مات من كان يحسن الوضوء } فهل بعد أن إنتشر علمه كل هذا الإنتشار .. ويحسن الوضوء وحسب ؟ .. لأنه لو أحسن الأساس ، فإن كل ما وراءه حَسَنٌ إن شاء الله ، فما دام سَيُحِسِنُ الوضوء فسيحسن الصلاة ، ولذلك فإن حضرة النبىّ صَلىّ الله عليه وسلمّ قد قال لنا جميعاً :
( من أحسن الضوء ، ثمّ صلى ركعتين لم يُحدّث فيهما نفسه بشيءٍ ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ) ولذلك فإن الوضوء من الوضاءة ، فهل عندما نقف أمام الله فى الصلاة ينظرإلى الوجه ؟ كلاّ ، لأنه هو الذى صوّره ، وإنّما ينظركما قال صَلىّ الله عليه وسلمّ : ( إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالم ) فيرى القلب وما فيه ، وما الذى يخطر على البال وما الذى ينشغل به الإنسان وهو يناجى الواحد المتعال عزّوجلّ .
إذن فزيادة الإيمان تأتى من طهارة السّر والباطن والقلب لحضرة الرحمن عزّوجلّ ، لأن الإنسان إذا طهّر الباطن والقلب فقليل العمل يكفيه ، ولا شيءً فى الدنيا وما فيها يستطيع أن يلهيه أو يصدّه أو يمنعه عن ذكرخالقه وباريه ، لأن الله عزّوجلّ آتاه اليقين فى فؤاده .
بذلك يا إخوانى قد علمتم كيف نُزيد الإيمان .. كيف ؟ نغسل القلب بالمساحيق القرآنيّة والمبيّضات النبويّة ، لكى يكون صالحاً لتجلىّ رب البريّة عزّوجلّ فلما يطّلع عليه ، فلا يجد أحداً إلاّ الواحد الأحد ، فيأتيه الإكرام ، بأن يٌنّزل عليه السكينة ، أو يُنّزل عليه الطمأنينة :
﴿ أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ( الرعد : 28) ويُعطيه نصيبه من الرّحمة وقل فى ذلك ما شئت : يعطيه رحمةً فى الدنيا تتولاّه فى كل أموره فى الحياة الدنيا ، ورحمة فى الآخرة ، ورحمةً فى ظاهره يرحم الله بها كل أعضائه الظاهرة ، ويحفظها من الأمراض ومن الأغراض ، ويُعطيه القوّة ليستخدمها فى طاعة الله ، وعبادة الله جلّ فى علاه ، فلا يُكَسّل ، ولا ييجمد ولا يخمد ، وكذلك يعطيه رحمةً أُخرى فى القلب يدخل بها فى قول الله : ﴿ آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾( الكهف : 65) ومن يعطيه الله الرحمة فى القلب ينّزل له فوراً العلم اللدنىّ الإلهامىّ من الله ، فيجد أنّه وهو فى الصلاة تتفجّر فى باطنه معانى لا يعلمها أحدٌ من الخلق من الآيات التى يقرأها أو يسمعها من الإمام أثناء الصلاة ، وهبها له باريء الأرض والسماوات عزّوجلّ ، وكلما قرأ فى آيات الله لا يلزمه القراءة ولا الكتابة ، ولكن يلزمه التُقَى :﴿ وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ﴾( البقرة : 282) ويملأ الله عزّوجلّ هذا القلب بما يحبه ويرضاه من الإخلاص والخشوع ، ومن الإنكسار لحضرة الله ، وبالحضور الدائم مع مولاه وبعدم الإلتفات إلى الدنيا وشهواتها وحظوظها وأهوائها وملذّاتها ومستحسناتها لشغله بمولاه ، وغيرها من الإكرامات ، وهذا معنى : ( وعلى المزور أن يكرم زائره ) أى يكرمه بالإكرام الخاص الذى يليق بذى الجلال والإكرام من الإكرام المعنوى .. أمّا الإكرام العام إن كان فى الطعام والشراب أو الملبس ، فإنّه يعطيه لكل الأنام بل ربما يكون الكافر أكثر منّا فى هذه الخيرات ، لكنه إكرامٌ الله الخاص لمن زاره فى بيته بعد أن طهّر بيته .. أى القلب .. هو زيادة المعانى الإيمانيّة وزيادة العلوم البيانيّة ، وزيادة المحبّة للحضرة المحمدية وزيادة الزهد فى دار الدُنيا الدنيّة ، وزيادة الإقبال على الله فى كل وقت وحين ، وهذه هى الإكرامات التى يتفضّل بها على عباده المؤمنين ، ولذلك قال الله بعدها : ﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾( الماجدلة : 28) .. أين هذا النور؟ موجودٌ فى قلوب المؤمنين ، وقد قال فيه سيد الأولين والآخرين صَلىّ الله عليه وسلمّ : ( إتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنورالله ) ، وذلك لأنه النور العام ـ نور الشمس والقمر لجميع الأنام وكذلك نور الكهرباء لجميع الخلق ـ أمّا النور الخاص لأهل الإيمان فهو نور فى القلوب يكشف الله به عزّ وجلّ لهم الشدائد والمدلهمات والظلمات ، فيعرف بنور الله الذى معه الطيب من الخبيث ، ويعرف السيء من الحَسَن ، ويعرف القبيح من الجميل ، ويعرف الحلال من الحرام .. يكشف الله له بذلك بالنور الذى أعطاه الله فى قلبه والذى قال فيه الله عزّ وجلّ : ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ ( الأنعام : 122) إذن فهذا النور ليس فى الآخرة ، ولكنه يمشى به هنا فى الناس ، هذا النور أعطاه الله لأصحاب رسول الله وللصالحين من بعدهم إلى يوم الدين .. هذا النور الذى جعل سيدنا أبى بكر رَضِى اللهُ عَنه قبل أن يموت ، يقول للسيدة عائشة : { يا بنيّتى كنت قد أعطيك كذا وأريد أن ترُدّيه علىّ إنّما هما أخواك وأختاك .. فقالت : يا أبتى أردّهم ، ولكن ليس لى إلاّ أخوين وأختٌ واحدةٌ ، قال : أنظرى بطن أمّ خارجة ـ وكانت زوجته ـ أظن أن مافى بطنها أنثى } والرجل إذا مات وكانت زوجته حامل ، فإنّ التركة لا تُوَزع إلاّ بعد الوضع ، لأنهم لا يعرفون إن كان الذى فى بطنها ذكرٌ أو أنثى .. ووضعت زوجة أبى بكر بعد ستة أشهر ، وإذا الذى وضعته أنثى كما أخبر أبو بكرٍ الصدّيق رَضِى اللهُ عَنه .. فكيف رأى أن ما فى بطن زوجته أنثى ؟ بالنور الذى أعطاه الله له .. ما مدى هذا النور ؟ . مداه الكون كله بل والملكوت وذلك لأن سيدنا عمر كان على المنبر ورأى بهذا النور جيشه فى بلا د قارس وكلمّهم وسمعوه :
{ وقال : يا سارية الجبل } لأنه رأى العدو يحيط بجيشه من خلف الجبل ، فتساءل أصحاب رسول الله لِمَ قال عُمر ذلك ؟ فقال سيدنا علىّ : هو أعرف بمخرجه ، هيّا نسأله وعندما سألوه قال : { لقد رأيت سارية والجبل خلفه ، والعدو يحاول أن يحيط به من خلف الجبل فناديته ونبهته .. وبعد ذلك بشهر وعلى عادة القوم فقد كانوا يجلسون على الطريق ينتظرون البشير وعندما سألوه عما حدث ، فقال : نصرنا الله .. قالوا متى ؟ قال يوم الجمعة عند الصلاة .. قالوا هل سمعتم شيئاً ؟ .. قال : سمعنا صوت أمير المؤمنين عُمر يحذّر ويقول : يا سارية الجبل فتيقنوا بذلك من كلام أميرالمؤمنين ، فأنظروا إلى مدى النور الذى يضعه الله فى القلوب .. هذا النور يعرف أيضاً ما رأته العيون ، فقد كان سيدنا عثمان رَضِى اللهُ عَنه يجلس يوماً فى مجلس الخلافة ، وإذا بأحد أصحاب رسول الله يدخل عليه ، فقال سيدنا عثمان ك { أما يستحى أحدكم أن يدخل علىّ وفى عينيه أثرالزنا ، فقال الرجل : أوحىٌ بعد رسول الله يا أير المؤمنين .. قال : لا ولكنها فراسة المؤمن } وكان الرجل وهو فى طريقه لأمير المؤمنين رأى إمرأةً كشف الريح عن ساقيها ، فنظر إليها وحقق ودقق ، مع أنّ له الأولى ، وعليه الثانية .. فكشف أمير المؤمنين بالفراسة التى قال فيها رسول الله : ( أتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ) والفراسة كما تعلمون فيها حكايات وروايات عند الصالحين لا تُعد ولا تُحصى ، ولا يخلوا منها مكان ولا زمان ، وهى نور يقذفه الله فى قلوب عباده المخلصين يكشف الله لهم به ما فى الصدور، ويكشف لهم به ما وراء المستور ويكشف لهم به كل ما فى الحياة من ظلمات لكى يعيشوا متنبهين ، ولكى ينالوا فضل ورضوان رب العالمين عزّ وجلّ .
هذه كما قلنا درجة من الإيمان وطلب منّا حضرة الرحمن أن نجهّز أنفسنا لنبّلغ هذه الدرجة ، وإيّاكم أن يقول واحد فيكم أننى لا أمتلك الجهاز الذى به أصل إلى هذه المكانة .. لا إننا جميعاً نملك هذا الجهاز فكل واحد منّا معه قلب صالح ولكن هناك منّا من يهمله ، وهناك من يهتم بالأعمال الظاهرة فى الدين ويترك المعانى الباطنة التى تصحب هذه الأعمال والتى تبلغ إلى منازل الوصال ، إذن فنحن جميعاً نملك هذه المعدة وهى القلب الذى جهّوه لنا الله والدليل أننا جميعاً كمؤمنين سنرى عند خروج الروح : ﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾( ق : 22) فالذى يكشف عند خروج الروح للعامة من المؤمنين ، ينكشف والإنسان حىّ يتحرك بيننا إذا كان من المقبلين المخلصين الصالحين لرب العالمين .. لماذا ؟ بشرى عاجلة من الله عزّ وجلّ .. ذلك لأن الله يريد لكل مؤمن أن يزداد فى درجات الإيمان وأن يطلب العُلو عن حضرة الرحمن وليس العُلو فى الأكوان ، وأن يطلب أن يكون من الوجهاء عند الله : ﴿ وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا ﴾( الأحزاب : 69) أو من الوجهاء فى الدنيا والآخرة ، وهؤلاء الأولياء ، لأن الولىّ أعطاه الله فى الدنيا الوجاهة فى قلوب أحبابه وعباده المقربين ، وجعل له فى الآخرة وجاهة فى حضرة رب العالمين بين جميع الحاضرين من الإنس والجن وخلق الله عزّ وجلّ أجمعين .
فنسأل الله عزّ وجلّ ان يرفع درجاتنا ، وأن يزيد فى قربنا ، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة ، وأن يصفى قلوبنا ن ويزكىّ نفوسنا ويهم أرواحنا ، ويبلغنا مرادنا ، وأن يجعل أعمالنا وأحوالنا وأقوالنا خالصةً لوجهه الكريم ، وألاّ يشغلنا بدار الدنيا الدنيّة عن حضرته البهيّة طرفة عين ولا أقلّ وأن يجعلها فى أيدينا وليست فى قلوبنا ، وأن يشغلنا بذاته وأن يجعلنا من المقبلين على حضرته فى كل أنفاسنا حتى نلقاه ونحن فى أشدّ الشوق إلى لقاء حضرته ، وأن يكرمنا بما أكرم به سلفنا الصالح من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين من الأحوال العليّة ومن الآيات والبراهين القرآنيّة ، وأن يجعلنا من المقبلين عليه .
صَلىّ الله علي سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلمّ
مسجد أبو دوح - طفنيس - إسنا - محافظة الأقصر - الثلاثاء 17/11/2009 ـ 29 ذو القعدة 1431 هج