Visits number:1122
Downloads number:3

الأحد 15/11/2009
فى فضائل مجالس العلم :
بسم الله الرحمن الحيم
الحمد لله الذى أنزل لنا وعلى حبيبنا القرآن ، فيه بيان لنا وللناس ، وهدى وموعظة ٌللمتقين .
والصلاة والسلام على من إنتقاه مولاه واصطفاه ورقّاه وحباه ، حتى جعل قلبه محلا ًلتنزل القرآن ولسانه أول من نطق بالقرآن عن حضرة الرحمن .. وفعله وعمله هو البيان الحقيقى للقرآن .. سيدنا محمد وآله الكرام ، وصحابته العظام .. وعلينا معهم أجمعين .. آمين . آمين يا رب العالمين ..
إخوانى وأحبابى بارك الله فيكم أجمعين :
الليلة تحققت من حديث شريف للحبيب صلى الله عليه وسلم يرويه عنه سيدنا أبو ذرّ رضى الله عنه .. يقول صلى الله عليه وسلم فيه : (مجلس علم ٍ خير ٌمن عيادة ألف مريض ومن تشييع ألف جنازة ، ومن صلاة ألف ركعة ، قال : فقلت يا رسول الله أوَمِنْ قراءة القرآن ؟ .. قال : وهل تنفع قراءة القرآن بغير علم ؟ ) ..
فقراءة القرآن يلزمها العلم الذى يفقّهنا أسرار كلام الرحمن عزّ وجلّ ، الذى به أتفهّم معانى الكلام وأعرف مدارك كلام الله عزّ وجلّ ..
إذن فأنا أحتاج إلى العلم لكى أصل إلى ذلك :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر : 17) ، ولم يقل الله ك فهل من تالى . . فالقرآن والحمد لله يُتلى آناء الليل وأطراف النهار ، ولكننا نحتاج لفهم القرآن – لماذا تحققت بهذا الحديث ؟ .. هذه السورة ، سورة القصص .. لماذا نزّلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلاها على أصحابه ، فاستمعوها ووعوها ، غير أن واحدا ً فيهم أخذ يبكى بكاءا شديدا ً وهو سيدنا أبو بكر ٍ رضى الله عنه وعندما سألوه لم رأيناك تبكى ؟ .. قال : لأنه فى هذه الاية نعُى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنظروا إلى الفهم فى القرآن ، فقد فهم من السورة أن الرسول سينتقل إلى الرفيق الأعلى ، ولم يفهم أحدٌ من الأصحاب مثل فهمه ، حتى أن سيدنا عمر رضى الله عنه بعد أن تولىّ الخلافة وكان يعقد مجلسا ً لكبار أصحاب حضرة النبىّ ليتدارسوا فيه العلم والقرآن وسنة النبىّ صلى الله عليه وسلم ، كان لايسمح لأحد أن يجلس فى هذا المجلس إلا ّ إذا كان من أهل بدر ، أى المتبقى منهم ، فقد كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، منهم من مات ، ومنهم كان يحارب فى الميدان ، وذلك لأن أهل بدر قال فيهم صلى الله عليه وسلم :
(إنّ رَبّّى إطلع على أهل بدر ، فقال لهم : إعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ) ، وكان الحديث بشرى لهم وليس معنى الحديث أن يقعوا فى الذنوب فلم يقل علامّ الغيوب ذلك ، إلا ّ وقد حفظهم من الذنوب ، لأن كلام الله عالى ، فعندما يقول : فقد غفرت لكم ، فإن معنى ذلك أنه سيحفظهم فى بقية أعمارهم وحياتهم من الوقوع فى الذنوب والمعاصى ، ولم يكن سيدنا عمر يسمح لأحد بحضور هذا المجلس إلا ّ لواحدٍ فقط ، صغيراً فى السنّ ، لكنه كان كبيرا ً فى العلم ، دعى له حضرة النبى وقال :
( اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل ) والتأويل أى معانى القرآن الخفية التى لا يطلع عليها إلا ّ أهل القلوب التقية النقية بإمداد من رب البرية عزّ وجلّ :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله ، ثم من ؟.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ( آل عمران : 7) أى الذين رسخت أقدامهم وثبتت قلوبهم وعقولهم فى علوم الله عزّ وجلّ ، ومن يريد بلوغ مرتبة الراسخين فى العلم ، قرّب لهم الحبيب الحقيقة ، ووضّح لهم الطريقة هذه الطريقة سهلة فى الكلام ، لكنها صعبة وشاقة فى التنفيذ ، إلا ّ إذا وفقه الملك العلا ّم عزّ وجلّ ، والراسخ فى العلم لا يشترط أن يكون حاصلا ً على الماجستير أو الدكتوراه ، لكن يجب أن يكون معه شهادة من الله ، بأنه إتقى الله وعلمّه الله :
{ وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله } ( البقرة : 282) ، هذه الشهادة كيف يصل إليها الإنسان ؟ ..
لخصّ الحبيب صلى الله عليه وسلم ذلك وقال :
( من كف ّ لسانه وبطنه وفرجه عن الحرام ، فذاك من الراسخين فى العلم ).. ليس من يتكلم كثيرا ً أو يملك صوتا ً عاليا ً فى الخطابة أو من يؤلف الكتب أو من يكتب المقالات .
فالراسخ فى العلم قد يكون رجلا ً أميّا ً بيننا ولا نعرفه ، ولكنه نفذ ما فى الحديث : ( من كفّ لسانه ) أى لا ينطق اللسان إلا ّ بما يرضى الله .. أمّا من يتكلمّ بلا رابط ، نسأل عنه الحبيب من هو الذى على الصواب ؟ هل الرجل الذى يمسك لسانه ؟ .. أم الرجل الذى منفلت اللسان .
كان صلى الله عليه وسلم يوصى أصحابه ويقول : ( أمسك عليك لسانك ) لماذا يا رسوزل الله ؟ قال : ( وهل يُكبّ الناس فى النار على مناخيرهم إلا ّ حصائد ألسنتهم ؟ ) فهناك كلمات تخرج من اللسان تقتل أكثر من الحراب والسنان والأسلحة التى صنعها بنى الإنسان ، فالكلمة قد تكون أكثر من طلقة ، ومن يكفّ لسانه سيتعلمّ الصمت ، والصمت يلزمه تدريب عملى ، إذ كيف يقفل الإنسان البابين اللذين صنعهما الله على اللسان ؟ .. فالعين عليها باب واحد ، والأذن ليس لها باب ، لكنه عزّ وجلّ خلق فيها ماءٌ مُرّ يمنع الحشرات والميكروبات من التسلل إلى تجاويفها .. أمّا اللسان فقد خلق له باب أول وباب ثانى وهو الأسنان وذلك لكى يضبط الإنسان لسانه .. وإذا ضبط اللسان وتعلمّ الصمت الذى كان يعلمه رسول الله لأصحابه فى دروس نظرية كالمحاضرات التى نحن فيها الآن ، ودروس أخرى عملية كان يجلس معهم فيها .. لا يتكلم ولا يتكلمون ، وإذا أراد واحدٌ فيهم الكلام ينظر إليه فقط فيصمت ..
يقول سيدنا أبو بكرٍ فى هذه الدروس : { كنا نتعلم الصمت كما تتعلمون الكلام }
درسٌ عملى ّإذ كيف يسكت اللسان إلا ّ عن ذكر الله فيصمت عن الكلام مع الخلق لكى يتكلم مع الملك الحق ، وإذا واظبَ الإنسان على هذه الخصلة وتمرّن وتمرّس عليها ، نسميه فى عرفنا : { صامت } ، وقد قال حضرة النبى فى هذا الرجل :
( إذا رأيتم الرجل يصمت ، فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة ) أى من الله عزّ وجلّ :
{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269) .
أين الجامعة أو الكتب التى تعلمّ الحكمة ؟ .. لا يوجد ولا يعلمّ الحكمة إلا ّ الحكيم عزّ وجلّ لمن تعّلم كيف يدرّب نفسه على الصمت مع الأنام لكى يتكلم مع الملك العلامّ عزّ وجلّ .
فإذا أمسك الإنسان لسانه وحفظ بطنه وفرجه عن الحرام ، يعلمّه الحكيم ، ويصبح من الراسخين فى العلم ... وكان سيدنا عمر لا يؤذن لأحد ٍ غير أهل بدر فى حضور مجلسه الموقر إلا ّ لسيدنا عبد الله بن عبّا س رضى الله عنهما ، وهذا ماجعل بعض الصحابة يسألوه : (يا أمير المؤمنين لِمَ تخُص هذا الشاب بالحضور معنا وعندنا من أولادنا من هو أكبر سناً وأنضج جسماً منه ؟ فأراد سيدنا عمر أن يعرّفهم لمَ خص هذا الشاب بهذه المنزلة فسألهم بعد أن بدأ الجلسة ما قولكم في قول الله تعالى :
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ , وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا , فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}, (النصر:3,2,1).
فردّوا عليه قائلين : ( خاطب الله رسوله بأنه اذا فتح عليه مكه وتم الفتح عليه أن يستغفر لكى يتوب الله عليه ) , فهل إقترف النبي أي ذنب لكي يستغفر؟.. ومع أنه منزّهٌ عن الذنب فقد أخذ ضمان من الله :
{لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} (الفتح :2) , أي مغفورا ً لك ما مضى وما هو آت مع أنه لم يقترف ذنب فيما مضى ولا فيما هو آت لأنه معصوم , والمعصوم لا يخطئ في حق نفسه ولا في حق أحدٍ من الخلق ولافي حق الحي القيوم عزوجل ولا معصوم غيره في شريعة الإسلام .
أما الأولياء فلهم الحفظ وهناك فرق بين الحفظ والعصمة فالأنبياء لهم العصمة لأن الله قد عصمهم من قبل وجودهم ولا تخطر معصيه قط على قلوبهم ، أما الأولياء فالله يحفظهم من تنفيذ خواطر السوء لو خطرت على قلوبهم فقال سيدنا عمر :
ما رأيك يا إبن عباس فى هذه السوره ؟ قال : ياأمير الؤمنين هذه الآيه كان فيها نعْىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال : ومما استنبط ذلك ؟ قال: من قول الله : { إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فكلمة تواب في اللغه العربيه أي رَجَّاع , أي سيرجعك إليه ومادام سيرجعك إليه ، يجب أن تكون البقيه الباقيه من حياتك في الاستغفار والتوبه لمن؟..
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد:19) , أي استغفر لمن حولك , ولمن سيأتون بعدك لأن إستغفارك مقبول , لأنه لو إستغفر أحدنا من الجائز أن ينال القبول , ومن الجائز أن يُردّ , أما إذا أراد إستغفار مقبول عليه أن يذهب لحضرة الرسول أو يتوجه هنا إلى الله بالرسول وذلك لأن القبول الحتمي عند الله , ولا حتم على الله إلا ما أوجبه الله على نفسه في كتاب الله الذي يرفعه ويعضده ويؤيده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } (النساء :64) , لابد وأن يأتوا إليك ، وإذا لم نستطع ذلك نتوجه إلى الله به أونتوسل إلى الله به أو يرفعوا الأمر إلى الله به , {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله }, هل يكفيك ذلك.. لا , إذن لابد بعدها أن يستغفرلهم الرسول :
{ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا } ( النساء : 64) .
وهذه هي الملحوظة الأولى التي لاحظتها في معاني هذه الآيه .
فإن القرآن لا يجب أن نفهمه ونفسره بفكرنا , لأن فكرنا قاصر محشو فيه بعض المعلومات , ولذلك عندما يأتي معنى في فكرى يكون على حسب المعلومات المحشوة فيه - وهذا ما وجدناه في كتب المفسرين - فإذا كان الرجل الذي يفسر القرآن عالماً في النحو تجد أن الغالب على تفسيره القواعد النحويه وإذا كان الرجل عالماً في الفقه , تجد أن الغالب على تفسيره النواحي الفقهيه ، وإذا كان الرجل يحب القصص تجد أن تفسيره للقرآن مملوءٌ بالقصص ، وإذا كان الرجل يغلب على تفكيره البلاغة ، والصور البيانية والصور البديعية تجد أن تفسيره للقرآن مملوءاً بهذه الصور البيانية والصور البلاغية وهكذا ... وذلك موجود ٌ فى كتب التفسير التى نعرفها :
فالشيخ النسفي كان يحب النحو فلذلك تجد أن تفسيره يغلب عليه القواعد النحوية ، والشيخ القرطبى كان يحب الفقه المالكى لذا تجد أن تفسيره للقرآن كله فقها ً على مذهب الإمام مالك .
والشيخ الزمخشرى كان يحب البلاغة والبيان والبديع ، لذلك تجد تفسيره مملوء بالبيان والبديع ، والشيخ الرازى كان يحب الفلسفة ، لذلك تجد تفسيره مملوء بالفلسفة ، والشيخ الخازن كان يحب القصص لذلك كان الغالب على تفسيره القصص ، وذلك كله لأن التفسيرفكرى .
أما إن أردتُ أن يكون التفسير ربّانى فعلىّ أن أتقى الله إلى أن أتلقى من الله الذى يريد أن يقوله لعباد اللهً فى كلامه عزّ وجلّ ، ولنضرب مثالاعلى ذلك :
فالموظف فى أىّ مصلحة ، عندما تأتيه التعليمات ، هل ينفذ التعليمات كما فهم ؟ أم ينفذها كما تريد الرياسة التى أرسلت هذه التعليمات ؟ .. عليه التنفيذ كما تريد الرئاسة ، وما يستعصى عليه من التعليمات عليه أن يرجع إلى الرئاسة للإستفسار عما إستعصى عليه - كذلك كلام رب العالمين ، فهو نازالٌ لنا لكى نعمل به فى حياتنا الدنيا فننال السعادة عند الله عزّ وجلّ – فكيف نعمل به ؟
لو كان كل واحدٍ فينا سيعمل بفكره فإنّ كل واحدٍ يكون وحده فى العمل ، وتجد لكل واحدٍ طريق ٍ مختلف عن الآخر .. والله لا يريد ذلك { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } ( الأنعام : 153) ، صراتٌ واحدٌ ، وقد كان لحضرة النبىّ فهمٌ خاصٌ للقرآن .. فلماذا لم يسجّل فهمه للقرآن ؟
قال لكى يظلّ الناس ويستمرّوا فى تقوى الله ، فيتنزّل عليهم من فضل الله معانى القرآن ، ولو أن حضرة النبى قد فسّرالقرآن .. هل كان يستطيع أحدٌ إضافة أى جديد لما قال ؟
لو حدث ذلك لا نتهى الأمر ، وتوقف الإجتهاد ، لكنّه صلى الله عليه وسلم ترك المجال مفتوحٌ كما قال حضرة الله : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (القيامة : 18،19) ، وثمّ هنا للتراخى إلى آخر الزمان ، أى سنبينه للرجال الذين إتقوا الله وأصبحوا حكماء يتلقون العلم من العليم ، والحكمة من الحكيم عزّ وجلّ .. فهؤلاء ينزل عليهم العلم فى الحال على حسب المجالس وعلى حسب الرجال ، ولكل قومٍ مقال ، ولذلك يقول فيهم الواحد المتعال :
{ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (العنكبوت : 49) ولأنّ أحدهم سيفسّر القرآن بالوارد الذى أتاه ، هل يفسّره بالوارد الذى أتاه اليوم ؟ أم بالوارد الذى جاءه بالأمس ؟ أم الذى سيأتيه غدا ً .. وهو فى كل مجلس جديد ، يأتيه الجديد من الحميد المجيد عزّ وجلّ فى معانى القرآن .
الشيخ أحمد بن إدريس رضوان الله عزّ وجلّ عليه ، جلس فى اليمن بعد صلاة الصبح ، فسّر آية ً من كتاب الله إلى صلاة الظهر ، وبعد صلاة الظهر جلس يفسّرها إلى صلاة العصر ، ومن بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب .. كل ذلك الوقت ، وكلما فسّرلا يعيد ما قال ، ولكنه يأتيه معانى جديدة ، واليوم التالى كذلك ، واليوم الثالث كذلك ، وبعد اليوم الثالث قال لهم :
{والله لوأطال الله فى أعمارنا ، ومكثنا فى مجلسنا هذا إلى قيام الساعة .. ما إنتهيت من تفسير هذه الآية ، وما كررت كلاما قلته ، وذلك من فضل ربى عزّ وجلّ }.وهؤلاء هم الرجال الذين قال فيهم الله :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران :7) .
الملحظ الثانى الذى نلحظه فى الآية :
وانظر إلى تربية الله لنا فى صورة حبيبه ومصطفاه .. فإذا جاءك النصر فى قضية ما ، أو فى معركة أو فى غزوة حربية ، أو إن جاءك النصر وتحققت لك أمنية ، لك أو لعيالك .. فما الواجب هنا ؟
إيّاك أن تبطر أو تتعالى وتتكبّر على الناس .. لكن عليك أن تتواضع وتتطامن كما قال الله لحبيبه :
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ( النصر: 3) اى سبّح بحمد الله عند النعم ، وأنسبها إلى الله كأن تقول :
إنّ ماتم كله من توفيق الله ومن معونة الله وإكرام الله ، ومن تأييد الله وإعزاز الله لى .. وإيّاك ان تقول :
إن ماتمّ بشطارتى ومهارتى .. لقد أحضرت المحامى فلان وأعطيته كذا ، وذهبت إلى المحكمة وفعلت كذا وكذا .. فإنّ كل ذلك أسباب ، والأسباب لا تفعل إلا ّ إذا شاء مسبب الأسباب عزّ وجلّ .
ولذلك فإنّ حضرة النبى عندما فتح الله له مكة ودخلها على ظهر ناقته القصواء ، والتى كانت ناقة ربانية لا تشابه النوق الموجودة عندنا الآن ، لأنه عندما ركبها وهو مهاجرٌ إلى المدينة ، كانت كلما مرّت على بيت من بيوت المؤمنين تقف لكى يقدموا له التحية والواجب الذى جهّزوه لرسول الله ، وإذا مرّت على بيت يهودى تسرع .. فمن الذى عرّفها انّ هذا البيت هو بيت يهودى ، وهذا البيت بيت مسلم .. مع أنها أول مرّة تدخل المدينة ؟
وكان سيدنا رسول الله إذا أراد ان يصلى فى السفر ، وكما تعلمون أن من يريد أن يصلى عليه ان يضع اى شيءٍ حاجزاً أمامه ، فإذا مرّ أى أحدٍ مرّ من خلف هذا الحاجز ، وكان صلى الله عليه وسلم يضع حاجزا ً أمامه ، إمّا الناقة ، وإمّا الفرَسْ ، فإذا وقفت الناقة أمامه لا تتحرّك ، وإذا وقف الفرس أمامه لا يتحرّك حتى ينتهى من الصلاة ، مع أنّ الخيل بطبعها سريعة الحركة ، وعندما دخل يطوف حول بيت الله الحرام راكبا ً القصواء ، فإنّ الناقة حبست بولهَا ورَوَثها حتى خرجت من بيت الله الحرام .. وأنظر إلى أدب الدواب مع الحبيب صلى الله عليه وسلم ، حبست بولها وروثها مع أنها ليس عليها ملام ، لأنها دابّة ، لكنها دابّة أدّبها الله ، لأنها تحمل حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ..
ومن شدّة أدبها أنه إذا نزل عليه القرآن وهو على ظهرها كانت تنيخ ، وعندما ينتهى الوحى تقوم وتكمل السير بإذن الله عزّ وجلّ .
كيف دخل رسول الله مكة عند الفتح على من آذوه وعذبّوه ؟
دخل ساجدا ً على ظهر الناقة حتى وصل إلى البيت الحرام وقد سنّ لنا بذلك سجدة الشكر لله ، فإذا أنعم الله على أى إنسان بنعمة ، وكان على وضوء عليه أن ينوى السجود لله ، ويشكر الله على عطاياه ، لأن الله قال لنا فى كتاب الله :
{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } (إبراهيم : 7) فإذا شكرته على نعمة الحبوب ، فإنه يزيدك من البركة فى هذه الحبوب ، وإذا شكرته على نعمة الأولاد ، فإنه يزيدك فى توفيق الأولاد ، فيجعلهم بررة بك إلى أن تلقى الله عزّ وجلّ .
وإذا شكرته على نعمة العِلمْ ، فإنه يزيدك من عنده ، وإذا شكرته عزّ وجلّ على نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة الكلام بالصلاة ، فإنه يحفظ عليك هذه الأعضاء لتتمتع بها حتى تلقى الله عزّ وجلّ فى علاه .. إذن الشكر هو الأساس ، وبالشكر تدوم النعم ، وبالمعاصى تزول النعم :
إذا كنت فى نعمة ٍ فارعها فإنّ المعاصى تزيل النّعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإنّ الإله ســــــــــــــــريع النقم
وبعد الشكر أنوى الصفح عمن أساء إلىّ ، وأعفو عمن ظلمنى ، وذلك كما فعل الحبيب، فقد شكر الله على نعمة الفتح بشيئين :
الأول : سجدة الشكر ..
والثانى : جمع أهل مكة وقال لهم : ماتظنون أنى فاعلٌ بكم ؟ وقد ظنّوا جميعا ً أن مصيرهم القتل جرّاء ما فعلوه برسول الله ، فإذا به يقول له :
( إذهبوا فأنتم الطلقاء ، لا أقول لكم إلا كما قال أخى يوسف لإخوته :
{ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ( يوسف : 92) ) .
أمّا الآن إذا نصرنى الله على أخى ، أو إبن عمى فى قضيّة ، فأريد أنّ أشنّع عليه بأنّى قد إنتصرت عليه فى تلك القضيّة ، وأريد أن تكون القطيعة أزليّة ، فلا أكلمّه ولا يكلمنى بل أوصى أولادى :
إيّاكم أن تكلمّو أولاده أو تواصلوه .. لماذا كل هذا ؟ وبمن تتأسّى ؟ .. ألم ترى الحبيب الذى ربّاه الله وأدّبه ، وقال لنا أجمعين :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} ( الأحزاب : 21) بل الأمّرّ من ذلك عندما يأتى أهل الخير للصلح بينهما يقول : لا .. لماذا يا أخى ؟ ألم تسمع حديث رسول الله الذى يقول فيه : ( من أتاه أخاه متنصلا - أى معتذرا ً- فليقبل منه محقا ً كان أو مبطلا ً ، فإنه إن لم يقبل منه لم يرد علىَّ الحوض ) ..
إذن يجب أن تقبل المعذرة ، وأن تعفو أقرب للتقوى ، ومن أراد أن يكون من الأتقياء ، عليه أن يتخذ سبيل العفو والصفح أمّا الذى يأخذ سبيل الصّدّ والهجران ، فليس له شأنٌ بالتقوى :
{ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( البقرة :237) فالأقرب للتقوى هو العفو ، لذلك قال الله للحبيب :
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (الأعراف : 199) والجاهلون هنا هم المتشدّدّون والمتسلطون الذين لا يلينون فى مثل هذه الأمور أمّا المؤمن فصفته كما قال رسول الله : ( المؤمن هيّن ليّن ) وذلك كما كان يفعل آباؤنا فى الزمن السابق ، لكن فى زماننا هذا مع الأسف ..
مع أنّ العلم زاد ، إلا أن القسوة والصلابة زادت ، وهذا ليس منهج الله ولا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا الله فى شخص حبيبه ومصطفاه أنّ الفرح بنصر الله فى أىّ أمر من الأمور ، يكون بشكر الله جلّ فى علاه ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعللا آله وصحبه وسلم