Visits number:267
Downloads number:2

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ما زلنا نتحدث سوياً في فقه الشهادتين، ونكمل حديثنا في فقه شهادة أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعد أن ألمحنا في اللقاء السابق إلى كيفية شهود العبد بنفسه، وتعرفه بقلبه على أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هو نبينا ورسولنا وزعيمنا في الدنيا والآخرة بل والخلق أجمعين.
والليلة نتحدث عن شهادة الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلَّم بالرسالة، فإن الله تبارك وتعالى بذاته العلية شهد لحضرته صلى الله عليه وسلَّم في كثيرٍ من الآيات القرآنية بالرسالة والنبوة، وأنه مراد الله ومصطفاه من خلقه وبريته.
فتارةً يحدثنا الله سبحانه وتعالى أنه دعوة إبراهيم وإسماعيل، على أن الله سبحانه وتعالى عندما أمرهما ببناء البيت الحرام في موضعه، فتح لهما أبواب الإجابة للدعاء، فكان من دعائهما كما قال رب العزة تبارك وتعالى:
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (129البقرة).
فاستجاب الله تبارك وتعالى دعاءهما، وقد يقول بعض القوم: ومالذي يعرفنا أن الدعاء هذا يُقصد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلَّم؟ فنقول:
الذي يمكننا من معرفةٍ تامةٍ أنه هو المقصود بهذا الدعاء صلى الله عليه وسلَّم هو إجماع المفسرين من عصره صلى الله عليه وسلَّم إلى يومنا هذا على أن المقصود في هذه الآية هو محمد صلى الله عليه وسلَّم، وإجماع المفسرين والعلماء حُجة.
الأمر الثاني:
الذي يوضح ذلك هو قوله صلى الله عليه وسلَّم وهو لا ينطق عن الهوى:
(أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى).
[لراوي : العرباض بن سارية | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج صحيح ابن حبان].
فبين صلى الله عليه وسلَّم أنه صاحب هذه الدعوة بهذه الكلمة المباركة، وأنه بشارة عيسى في قول الله سبحانه وتعالى أيضاً:
﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ (6الصف).
الأمر الثالث:
أن سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل دعوا في هذه الدعوة أن يبعث الله رسولاً في ذرية سيدنا إبراهيم في مكة وما حولها، ولم يبعث الله رسولاً في مكة وما حولها منذ إبراهيم إلا سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم.
الأمر الرابع والأخير:
أن الله عز وجل إمتنَّ على المؤمنين ببعثة هذا النبي منهم على هذه الصفة المذكورة في دعوة إبراهيم، فقال تعالى:
﴿ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ (164آل عمران).
إذاً أول شهادة لله سبحانه وتعالى بنبوة رسوله صلى الله عليه وسلَّم هي أنه ألهم إبراهيم أن يدعو بهذا الدعاء وإسماعيل، وبين أنه استجاب لهم، فهذا يثبت أنه رسولٌ من رب العزة تبارك وتعالى لينذر أم القرى ومن حولها.
وهنا قد يتساءل سائل: هل هذا الرسول لابد أن يكون بشراً ومن العرب؟
نقول: نعم
الأمر الأول:
لأن هؤلاء القوم وهم الذين يسمون العرب هم ذرية إسماعيل من إبراهيم، وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى إشترط على الإنسان المؤمن أن يؤمن بأن هذا الرسول بشرا، لأنه لو كان ملكاً لما كان يستطيع أن يوصِّل الرسالة إليهم، ولما استطاعوا أن يروه ولا أن يتابعوه، ولكنه لابد أن يكون بشراً سوياً ليجالسوه ويستمعوا إليه ويسألوه ويتعلموا منه، ويتبعوه صلى الله عليه وسلَّم.
وقد يقول قائل: أن الرسول صلى الله عليه وسلَّم إنتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن عاش ستين عاماً ميلادية، وثلاثة وستين عاماً هجرية، فهل رسالته باقية؟ نعم فإنه صلى الله عليه وسلَّم رسالته باقية إلى يوم القيامة، لأنه خاتم النبيين ولا يأتي رسولٌ بعده صلى الله عليه وسلَّم إلى يوم القيامة، ولأنه صلى الله عليه وسلَّم كما بين ربنا سبحانه وتعالى في القرآن يرى أعمالنا ويطلع على أحوالنا، ويشهد لنا أجمعين، كما قال صلى الله عليه وسلَّم:
(تُحدثون ويُحدث لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم، فإن وجدتُ خيراً حمدتُ الله تبارك وتعالى على ذلك، وإن وجدتُ غير ذلك، إستغفرت الله تبارك وتعالى لكم).
الأمر الثاني:
أن الله عز وجل عندما ذكر بعثته صلى الله عليه وسلَّم وصفه بالأمية، ووصف العرب الذين أُرسل إليهم بالأميين، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ ﴾ (2الجمعة).
والأميين هنا هم العرب، لأنهم لم يكونوا يعرفوا القراءة ولا الكتابة إلا نفرٌ قليلٌ جداً منهم، والرسول صلى الله عليه وسلَّم أيضاً كان أمياً، لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنه:
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ (48العنكبوت).
فاختيار الله سبحانه وتعالى له في أنه كان أمياً يعني أن الذي جاء به هو وحيٌ من عند الله سبحانه وتعالى، فإنه لم يكن في أمةٍ ذات حضارة ورقي حتى يبلغ ما تعلمه من حضارتهم ورقيهم، ولم يذهب إلى آخرين ممن حوله ممن وُصفوا بالحضارات والرقي ليتعلم منهم، ولم يثبت أنه ذهب إلى أحد ليتعلم على يديه القراءة والكتابة، فكان هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الذي قال:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (1العلق).
هو الله تبارك وتعالى، وهو وحده الذي علمه ما لم يكن يعلم:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ (113النساء).
الأمر الثالث:
أن هؤلاء الأميين مع أنهم كانوا أميين إلا أنهم كانوا أخبر الناس بصفاته: بصدقه وأمانته ونسبه وقومه ونشأته، فكانوا يعرفونه معرفةً جيدةً كمعرفة أبنائهم بل أكثر من ذلك، وهذا دليلٌ على أن الله سبحانه وتعالى عرفهم بأنه نبيٌّ مرسل، لأنهم يعرفون أنه لم يتعلم هنا أو هناك، ولم يأتي بهذا الذي أتى به من أي جهةٍ أرضية، ولكنه أتى به عند الله تبارك وتعالى.
ولذلك لما كذب بعضهم، قال الله تعالى في شأنهم:
فانهم لا يكذبونك ـ لانهم يعلمون تمام العلم أنك نبي .
﴿ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ (33الأنعام).
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه الكريم بياناً شافياً، فقال:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ (44) لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ (46) (الحاقة).
وهذا تحذيرٌ شديد أكيد يدل على أن هذا النبي لم يأتي بشيئٍ من قبل نفسه، وإنما وحيٌ من ربه تبارك وتعالى.
وهناك روايات لاتُعد ولا تُحد لكبار المكذبين من قريش، فقد رُوي من جملة الروايات أن أبو جهلٍ وهو أشدهم عداوة حدث بينه وبين النبي أمر، فقال: أشهد أنه نبي، فقيل له: ولم لم تؤمن به، فقال: كنا نتافس نحن وبنو هاشم الشرف، لهم السقاية ولنا اللواء، ولنا القتال.
وكان كل فضائل أهل مكة موزعة على القبائل، واليوم قالوا: إن فيهم نبي فمن أين نأتي بهذه، كيف نأتي بنبي أخذته العزة بالإثم والنعرة الجاهلية في الفخر بالآباء والأجداد، لكنهم كانوا يعلمون يقيناً أنه صلى الله عليه وسلَّم ماكان إلا رجلاً صادقاً في كل أحواله، فكيف يكذب على الله تبارك وتعالى وهو الصادق الأمين.
الأمر الرابع:
أن الله وصفه في القرآن بصفاتٍ عظيمة، فقال في وصف وظائف نبوته:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ (46) (الأحزاب).
فهو شاهدٌ لله تبارك وتعالى على وحدانية الله، وأنه إلهٌ واحدٌ أحد فردٌ صمد لا في شيئ ولا من شيئ ولا على شيئ ولا محمولاً على شيئ ولا مفتقراً إلى شئ:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (11الشورى).
ويشهد في الدنيا على أحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط ويبينها لمن حوله رأي العين، كأنهم يرونها ـ من شدة إطلاعه صلى الله عليه وسلَّم عليها.
ويشهد في الآخرة حال أهل الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد، وهو الشاهد على الخلق أجمعين يوم القيامة صلوات ربي وتسليماته عليه.
وقال الله تبارك وتعالى عندما كذبه المكذبون تطميناً لقلبه:
﴿ وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ (1المنافقون).
وقال أيضاً:
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ (43الرعد).
وقال أيضا إذا كانوا يكذبون فإن الله يقول:
﴿ لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِالله شَهِيدًا ﴾ (166النساء).
ونعته صلى الله عليه وسلَّم بنعت الرسالة دون غيره من الأنبياء وقال في وصفه:
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ ﴾ (29الفتح).
وهنا شهادة تامة من الله تبارك وتعالى لحضرته بالرسالة، وأنه هو الرسول الذي اصطفاه الله ورباه على عينه وحباه وأدناه ورقاه، وأمره أن يبلغ رسالة الله لجميع خلق الله.
وبين سبحانه وتعالى أنه هو الذي أرسله الله ليبين للناس طريق الهُدى، فقال في أكثر من موضع:
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ (28الفتح).
ومن الأمور العجيبة التي يحتار فيها الإنسان اللبيب الفصيح، أن الله سبحانه وتعالى جعل في فطرة كل إنسانٍ سوي نزوعٌ إلى الإيمان بهذا النبي، وإلى والتصديق بدين النبي، وإلى التعلق بكتاب النبي، وإلى حُسن المتابعة بحضرة النبي، فما أودعه الله في هؤلاء في قلوبهم من الفطرة السليمة، يجعلهم يصدقون بنبوته صلى الله عليه وسلَّم حتى ولو لم يروا معجزات أو آيات، لأن فطرتهم تهديهم:
﴿ فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ﴾ (30الروم).
هذا الشاهد الذي في القلب هو من أعظم الشواهد على نبوته ورسالته، ولذلك قال الله تبارك وتعالى له ولحضرته:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ (158الأعراف).
الأمر الخامس:
أن الله عز وجل بين في صريح القرآن أنه إصطفاه منهم:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ (128التوبة).
فهو منهم وليس غريباً عنهم ويعرفون أطواره وأحواله كلها، وفي قراءة:
لقد جاءكم رسول من أنفَسِكم أي من خيركم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أنا خيارٌ من خيار من خيار).
وفي رواية:
(إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ ، إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا ، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ).
[الراوي : واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي].
فهو من بني هاشم، وبنوا هاشم خيار أهل قريش، وقريش خيار العرب، والعرب ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
وكان الشاهد الأعظم على رسالته أن الله عز وجل بين بياناً شافياً في آية صغيرة في القرآن مهمة، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (107الأنبايء).
فهو صلى الله عليه وسلَّم الذي زينه الله بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة وجميع شمائله وأخلاقه وصفاته رحمة للخلق أجمعين، فمن أصابه شيئٌ من رحمته، فهو الناجي في الدارين، من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب.
ومن حُرم من هذه الرحمة حُرم من كل خيرٍ في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه:
[الأنبياء خُلقوا كلهم من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلَّم عين هذه الرحمة].
كان صلى الله عليه وسلَّم رحمة للخلق أجمعين، لأن الله رفع العذاب عن أهل الأرض جميعاً ببعثته، فقال سبحانه وتعالى:
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ (33الأنفال).
وكان صلى الله عليه وسلَّم رحمة للملائكة، لأن الله رحمهم من الخوف الشديد من حضرة الجبروت والرهبوت، فقد رُوي أنه قال صلى الله عليه وسلَّم لسيدنا جبريل:
(ألم يُصبك من هذه الرحمة شيئ؟ ) ـ قال:
[بلى كنت أخاف من جهنم فأمنت بعد عروجك، لقول الله تعالى:
﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ (195) (الشعراء)].
ويحكي الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه في كتابه {شجرة الكون} أنه صلى الله عليه وسلَّم عندما كان في ليلة المعراج ومرَّ على العرش، قال بلسان عبارته:
[فتمسك العرش بأذياله، وناداه بلسان حاله: يا محمد أنت في صفاء وقتك آمنٌ من مقته، أنت المرسل رحمة للعالمين، ولابد لي من نصيب من هذه الرحمة يا حبيبي يا محمد، ونصيبي من هذه الرحمة أن تشهد لي بالبراءة مما تقوَّله أهل الزور إليَّ، ونسبه أهل الغرور عليَّ، زعموا أني أسع من لا مثيل له، وأُحيط بمن لا كيفية له، يا محمد إذا كان الإستواء صفته ورحمته نعته، فكيف يطيق مخلوقٌ ضعيفٌ مثلي حمله، أنا محمول قدرته، وأنا معمول حكمته.
فناداه لسان حال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
(أيها العرش إليك عني لا تعكر عليَّ صفوتي، ولا تشوش عليَّ خلوتي).
فالملائكة المقربون لهم نصيب من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والحيوانات بأجمعها لهم نصيبٌ لا نستطيع عدَّه وحدَّه في هذا الوقت القصير من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، يكفي أنه صلى الله عليه وسلَّم أمرنا عندما نريد أن نذبح ما أحل الله تبارك وتعالى لنا أن نشحز المدية أو السكين وأن نسقيه ماءً، وأن ننيمه على الجنب اليمين، وأن لا نريه السكين، وأن لا نذبحه في وسط قومه، حتى لا يموت موتات، وأن نسمي الله فإن باسم الله تكون بمثابة حقنة تخدير لهذا الحيوان، حتى لا يشعر بهذا الذبح ولا يخزى ولا يُهان.
حتى أنه صلى الله عليه وسلَّم في الوحوش الضارية والحيوانات القاتلة، عندما نريد أن نقتلها رحمة بها، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
[الراوي : شداد بن أوس | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم].
يعني أقتلوها برفقٍ ولين، ولا تمثلوا بها ولا تعذبوها عند الموت، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلَّم كان في إحدى الغزوات، وظهرت حية فأراد أصحابه قتلها، ففرت منهم فسألهم عما حدث فحكوا له، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(وُقيت شركم، ووُقيتم شرها).
[لراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري].
وكان صلى الله عليه وسلَّم ـ وكان من دأب العرب في هذه الآنات أن يركبوا الجمال والخيل والبغال والحمير، وكان إذا تقابل رجلٌ وهو راكبٌ مع رفيق له راكب، يتحدثان وهما راكبات فيرى أن ذلك يؤذي حيواناتهما، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي).
[لراوي : أبو هريرة | المحدث : النووي | المصدر : المجموع خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد].
يعني إذا أردت الحديث مع رفيقك إنزل وأرح الدابة، وتحدث ما شئت ثم ارجع للركوب رفقاً بها.
ولذلك ورد من رفق هؤلاء الأصحاب ما لا يُعد ولا يُحد يكفينا في هذا المجال قول أبي ذرٍ رضي الله عنه عند موته لجمله:
[أيها الجمل لا تشكُني غداً إلى ربك، فإني لم أكن أجيعك، ولا أحملك فوق طاقتك].
أما رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالنباتات فإنها لا عد لها ولا حد لها، يكفي قوله صلى الله عليه وسلَّم:
(إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة ـ والفسيلة هي النخلة الصغيرة ـ وفي يد أحكم فسيلة فليغرسها).
وجعل ظلها ثواب، وجعل كل ما فيها يُثاب به المرء وجعل كذلك الله سبحانه وتعالى ينزع عنها حسها حتى لا تتألم عند قطعها، أو عند جزعها، فالنخلة على سبيل المثال:
ظلها ثواب، وأكل رطبها فيه شفاء للناس، وحتى جريدها يُصنع منه الأساس، وحتى ليفها يُصنع منه ما ينفع الناس، فكل شيئ فيها نافعٌ للإنسان، وهذا ببركة ورحمة النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.
ونختم ذلك بقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون).
[الراوي : أبو هريرة | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان].
فكان صلى الله عليه وسلَّم خاتم النبيين، وكان صلى الله عليه وسلَّم لا نبي بعده إلى أن ينتهي الزمان والمكان.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الليلة، ونكمل في اللقاء القادم إن شاء الله.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم